شعار قسم مدونات

الحرية كمفهوم جديد للعقيدة

blogs قيود

كثير هو الضباب الذي يلف مفهوم الحرية في الإسلام، وهذا الذي وضع ديننا كغرض لكل من يريد أن يطعن فيه وأعتقد أننا وصلنا إلى درجة ينبغي لنا التوقف في هذه المسألة لكي نتناولها من خلال معطيات واقعية عن الإسلام. ومع خطورة الموقف والمرحلة التي نجتازها فإن الحاجة ماسة لكي تتبلور هذه الفكرة ونحاول تقديم رؤية واضحة لا غبار عليها، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الإسلام مبني في جوهره على الحرية بمفهومه الشامل، وليس تلك النظرة التي تمّ إشاعتها واتخذها آخرون وربما حكام من أجل الوصاية الدينية والأدبية وربما السياسية على الآخرين.

العقيدة والحرية 
لكن، بداية كيف يمكن إدراج الحرية بين مواد العقيدة يا ترى، أم أننا نريد أن نقوم بتجربة جديدة أو نعمل من أجل صياغة جديدة لمواد العقيدة التي درجت عليها منذ قرون ولم تعهد شيئا كهذا. ربما هذا الموقف قد يثير الاهتمام وربما الامتعاض في محاولتنا ربط الحرية بالعقيدة. رغم يقيني أن لا عقيدة لأي إنسان ما لم يكن حرّا فالعبد ليس ملزما بكثير من الشعائر التعبدية في الإسلام وهذا معروف في تاريخنا الطويل وفقهنا الإسلامي.  

لا عقيدة بلا حرية

الإسلام دين يقوم على الإقناع والاقتناع بين من يريد أن يدخله ومن لا يريد ذلك. ولذا كانت الدعوة في سنواتها الأولى قائمة على ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن المكي يتمثل قوله تعالى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف. وهذا خير دليل على أن الإسلام لا يجر أو يلزم الناس باعتباره أبدا، وإنما المشكلة التي حدثت معه وكفّار قريش أنه كان يدعو ويتحدث ويقول ما يعتنقه وما يريده، ومن حقه ذلك طبعا كما لغيره أن يدعو لغير ما دعا ويعارض دون تعد أو اعتداء، هذه الحرية هي التي وجدتها الصحابة الأول في هذا الدين الحنيف حيث يدعو إلى تحرر العقل من الأصنام الحجرية والفكرية والاجتماعية التي كانت شائعة آنذاك، فأقبل الناس على عقيدته ليس بدافع الاعتناق والدخول في الإسلام بل لأن في هذا الدين الجديد مساحة من الحرية والتفكير والاختيار المنطقي للفرد فيه بعد أن كسر قيودهم الفكرية والعقدية.

في القرآن المدني أيضا

لا إكراه في الدين ولا إجبار في الفكر ولا إرغام في الاعتقاد؛ كل الناس أحرار وهذا هو الذي حاربه كفار مكة لأنهم لا يريدون أن يتحرر العبيد أو من دونهم ولا يطالبوا بأبسط حقوقهم

نعم، كنّا نستغرب كيف يدعو الإسلام في الفترة المكية بمبدأ "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، "لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" كما تذهب الآية. هذا المفهوم كان بمثابة عقيدة صلبة لدى الرعيل الأول الذي لم تغب عنه هذا الفهم حتى حين وصلوا إلى أدغال أفريقيا وأمام ملك الحبشة حين قال أحدهم: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ليستدرك بعد ذلك ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. وفي ظل تطبيق العدالة لا قيود فيه على أحد فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر واضح في هذا الإطار.

ثم يأتينا القرآن المدني وفي أكبر سورة في القرآن وأطولها قائلا: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة.. ثم يبرر لك لماذا لا إكراه في الدين؛ لأنه قد تبين الرشد من الغيّ؛ بمعنى ما مشكلتك في إجبار الآخرين على التدين؛ أفتكره الناس حتى يكون مؤمنين…

إذا، لا إكراه في الدين ولا إجبار في الفكر ولا إرغام في الاعتقاد؛ كل الناس أحرار وهذا هو الذي حاربه كفار مكة لأنهم لا يريدون أن يتحرر العبيد أو من دونهم ولا يطالبوا بأبسط حقوقهم فهم يريدون أن يتحكموا على الرقاب بأي ثمن ويريدون الاستئساد بأي طريقة، ومن أراد أن يحول بيننا وذلك فسوف نحاربه ونجابه بذلك حتى ننتصر على من يسلب منا هذه الحرية، وهذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم في العهد المكي وكذلك في العهد المدني وما سبق يؤكد ذلك.

الحرية كجزء من حياة الصحابة 

نعم، هذا المفهوم لم يكن مجرد تنظيرات ولا نصوص مجردة وإنما كانت وقائع على الأرض؛ فلم يعثر أن النبي صلى الله عليه سلم أجبر على اعتناق الإسلام أو الإجبار على تطبيق كل ما يقوم به هو إلا الفرائض الأساسية لمن اعتنق الإسلام. وكان له- صلى الله عليه وسلم – جيرانه وأصدقاؤه من اليهود والنصارى، وكتب وثيقة المدينة للتعايش السلمي بين أفراد المجتمع دون وصاية ولا تدخل في عبادات القوم وما يعتنقونه طالما يعيشون في الوطن الوحيد.  

إن الحملة التي قادها الإسلام على النفاق إنما من أجل النفاق الذي ينخر المجتمع ويفسده، كما كان يقوم به منافقو المدينة حينها والدور التخريبي الذي قادوه. وإلا فالكل حر فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

هذا الفهم السائد آنذاك هو الذي حدا بالقبطي والمسيحي الذي غادر مصر ليقود المدينة لكي يأخذ حقه من ابن واليه على مصر مع كونه عمرو بن العاص.  فالمجتمع المسلم يحرص على هذه الحرية بل ويعمقها بين الأفراد والجماعات وبين الملل والنحل.. ولا حماية لأحد في انتهاكها، ورغم كون الرجل مسيحيا فلم يمنع ذلك الخليفة أن يقتص له في حق من حقوقه المدنية والأدبية ورد الاعتبار إليه. وحدث ذلك أكثر من مرة وأعتقد أن هذه الحرية ينبغي أن تعود النظر فيها وجعلها من صميم عقيدتنا الغراء.

وحتى الحملة التي قادها الإسلام على النفاق إنما من أجل النفاق الذي ينخر المجتمع ويفسده، كما كان يقوم به منافقو المدينة حينها والدور التخريبي الذي قادوه. وإلا فالكل حر فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فهل نحن مستعدون للقيام بهذه الجرأة العلمية لإعادة النظر في صياغة مواد جديدة في مادة العقيدة علما أن لكل عصر مشاكله ومسائله التي ينبغي أن توضع أمام الأضواء لكي يتلقاها النشء وترك مسائل عقدية عفا عليها الزمن ولم يعد هناك مبرر علمي ولا أكاديمي لتناولها إلا من باب المطالعة العامة.  

أما هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة التي ينبغي أن نضعها في صلب الاهتمام وفي غرف الإعداد لكي نقدم موادا جديدة للعقيدة الإسلامية وغيرها من المواد الأخرى التي تحتاج إلى قراءة جديدة وطرح جديد، ولا شك أن ذلك واجب ملحّ ومهمّ في نفس الوقت لكل المؤسسات العلمية والأكاديمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.