شعار قسم مدونات

الحزن المفقود.. في ذكراه الأوّل

blogs - Autumn

يا أمهات الشهداء وزوجاتهم وكذا آلاف الضحايا تحت ركام دمار عواصمنا، وأمّهات وأبناء وبنات وآباء المعتقلين في سجون الطغاة والأسرى في سجون الاحتلال وآلاف المقهورين والمظلومين والمهجّرين والمشرّدين في عالمنا العربيّ بل عالمنا أستميحكم عذرا.. أستميحكم عذراً أن أكتب عن حزني الشخصيّ المتفلّت منّي أمام أحزانكم وآلامكم، وأنا الذي تجنّبت ذلك مراراً، لستُ أنانيّاً ولا مستكبراً حزني أمام أحزانكم.. بيْد أنّي لم أقوَ على همّي أمام عظمة أمّي كما أمهاتكم.. فأمام حضن الأمّ وفقدها لا يجوز إلاّ الانحناء!

 

أوّاهٍ منك أيّها "الحزن"! مالك تتفلّت منّي؟ ما لي ألاحقك فَتهرُب، وتتلبّسني فأنكِرُك؟! مع أنّي منذ عامٍ أنتظرك، وأعدّ العدّة لأعيشك وأتنفّسك وتلفّني! راودتني نفسي بالحزن كثيراً؛ بيد أنّي استعصمتُ عليه وعليها، وقلتُ: ستأتي اللحظة التي أقول فيها: الآن أرثيكِ! الآن أرثيك يا سيّدة الكون! لكنّي ما زلتُ شارداً في الإنكار؛ رقم هاتفها ما زال في القوائم المفضّلة في هاتفي، أكثر من مرّة في مناسبات عدّة أجد إصبعي "يكبس" على الاسم، وبثواني "ألغي" الاتصال!

 

في كلّ مناسبة أنتظر اتصالها وجملتها المشهورة: "أيوه يا رفيك (رفيق) عمري أِنتِ (أنتَ)"! لكنّ الحقيقة توقظني: لم تعد موجودة! اصحَ! استيقظ! الغِ الاسم من القائمة، لا تتصّل ولا تنتظر اتصالاً. لن يأتي الصيف القادم فتجدها، ولن يهتف الهاتف باسمها: جميلة JAMEELAH! لن يكون!

 

يجب أن تتوقّف عن "الإنكار" الوهمي! انتهت القصّة! هكذا هي قصص الحياة كلّها! تبدأ بدمعة فرح وتنتهي بشهقة حزن! بيْد أنّي حُرِمتُ حتى من شهقة الحزن!

رفيقة العمر! نعم! رفيقة العمر! فلا أعرف من طفولتي "القصيرة جدّاً" إلاّ حضنك الشاب الغضّ، ثمّ رفقتك الطيّبة وصداقتك؛ أمّي وأنت صبيّة نقيّة في السادسة عشرة! لشدّ ما أعيش قراءتك للقرآن و "نهفاتك" وأسئلتك القرآنيّة وأنت التي لم تدخلي مدرسةً قطّ! كنّا نتندّر بها، ونحن المساكين الآن نفتقدها!

 

يا سيّدتي! وكأنّي هربتُ من السفر للأردن هذا الصيف هروباً، حتى لا أصطدم "بالحقيقة"! لكنّ الغريب أنّ جئت إلى اسطنبول حيث تلقّيت الخبر الذي يبدو أنّي لم أعشه "يقيناً" بعد! بل لنفس البيت ونفس الغرفة، بل انقطعت الكهرباء كما حصل نفس ليلة الفَقْد، وكأنّ القَدَر "يوقظني" من انتظار الحزن!

هنا في هذه المدينة في هذا المنزل في هذه الغرفة على هذا الهاتف تلقّيتَ الخبر! ما لك تتهرّب؟ الرسائل ما زالت موجود، رسائل المتابعة "بالسماح" لي أن ألقي عليها نظرة الوداع، وجواب أهلِ "التنسيق" بالمَنْع"! وتساؤلاتها لأشقائي ولشقيقاتي: شو صار مع وائل يمّة؟ ما سمحولوش؟

 

ماتت! نعم ماتت! واللهِ العظيم ماتت! ولم تسمع الجواب! ولم أرها! لم أسمعها! لم أشمّها لم تلمسني! لم تضاحكني "كطفلٍ" خمسينيّ: يا رفيك عمري! لم تقل لي: مادمتو بخير يمّة أنا بخير! ربّما لذلك لم أعِش "الحقيقة"، ولم أصل أنّ اليقين جاءها ويجب أنْ يأتيني! راجعتُ رسائل "التنسيق" المتبادلة أكثر من مرّة حتى أقنع نفسي: "توفيت الوالدة رحمها الله". الساعة 02:21 اليوم ٢٥/٧/٢٠١٦.

 

عقلياً مقتنع؛ فقد سُمِح لي بدفنها، بعد أن مُنعتُ من لثم جبينها حيّاً رطباً نديّاً كما عادته! فكفّنتها ودفنتُها واستقبلتُ عزاءها، ودخلتُ غرفتها مئات المرّات ولم أجدها، سهرتُ في "الحوش" ولم تكن معنا تناغِمنا و"نتدلّل" عليها! …. كلّ هذا "عقِلتُه" لكنّي لا أدري لماذا لم "أوقنه" ولم أعشه وأتهرّب منه بل كأنّي أنتظره، نعم أنتظره! وكنتُ أتوقّع أن ينتهي الانتظار والتهرّب هذا اليوم! لعلّي أنجح! لعلّي أمسك نفسي فتحزن! حتى "أفرّغ" مكبوت سنةٍ من الحزن المتفلّت!

 

يجب أن أحزن! كلّ إخواني وأخواتي – بل كلّ مَن عرفها  وأحبّها – "استمتعوا" بالحزن ورشف الدموع وارتجاف الشفاه وخفق القلوب وشهق الصدور! إلاّ أنا! بل إنّي أظنّهم يتساءلون عن عدم "تفاعلي" مع أحزانهم وعواطفهم!

 

يا سيّدتي! ما يسرّي النفس أنّ أحباءك وراثيك كثرٌ يا "رفيكة" العمر! أسمع الدعاء لك من الكثيرين فتهدأ النّفس وتطيب الرّوح التي هي بعض روحك!

يجب أن تتوقّف عن "الإنكار" الوهمي! انتهت القصّة! هكذا هي قصص الحياة كلّها! تبدأ بدمعة فرح وتنتهي بشهقة حزن! بيْد أنّي حُرِمتُ حتى من شهقة الحزن! وللأمانة مثلي الكثير الكثير، ولكن كلٌّ منّا يستعظم حزنه! فاعذروني!

 

يا سيدتي! يا طيّبة القلب! يا من لا تعرفين إلاّ الصفاء وتهربين من "النّكد"، يا مَن عشتِ "طفولتك" البريئة حتى في غرفة الإنعاش وعلى الكرسي المتحرّك تتحوّلين عليه جَذِلة في أروقة المستشفى تناغين كل الأطباء والممرضات! ساعديني أنْ أرثيك! كي أنال القرب منك وقد ابتعدتِّ!

 

يا سيّدتي! ما يسرّي النفس أنّ أحباءك وراثيك كثرٌ يا "رفيكة" العمر! أسمع الدعاء لك من الكثيرين فتهدأ النّفس وتطيب الرّوح التي هي بعض روحك! في ذكراك! سلامٌ عليك في الطيّبين، سلامٌ عليك في المساكين، سلامٌ عليك مع المرتّلين، سلامٌ عليك مع الأصفياء والنقيين الذين "نزعنا ما في صدورهم من غلٍ"، سلامٌ عليك وعلى كل الأمّهات الطيبات مثلك!

 

يا سيّدتي! حتى وإن كنتُ أتفلّت من "الحزن" كي لا أفقدك… لا أملك إلّا السلام على روحك الطيّبة في الطيّبات الصالحات القانتات… سلامٌ على روحك في الخالدين! أطمئنك سيّدتي الجميلة.. سيبقى اسمك الجميل في قوائم المفضلة، وسأبقى أنتظر مكالمتك يا "رفيكة" العمر حتى أرافقك وأتمرّغ في حضنك في الجنّة بإذن الله رب العالمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.