شعار قسم مدونات

سيكولوجية الحوار مع الله

blogs- تاريخ إسلامي
عجيب أمرنا ففي حين تعاني بلادنا من انقطاع سبل الحوار بيننا على مختلف المستويات وعلى كل الأصعدة فلا حوار في البيوت ولا حوار في المدارس ولا حوار في العمل ولا حوار في المجتمع ولا حوار في السياسة..! حالة من انسداد الأفق نعاني منها رغم أن الله عز وجل أشار إلى الحوار كوسيلة للتفاهم والتواصل ليس بين البشر وبعضهم البعض بل بينه سبحانه وتعالى ومخلوقاته، ليبدو الحوار ناموسا للكون لا ينصلح الحال إلا به ويعتبر غيابه معاداة ومصادمة لنواميس الكون الغلابة.

1- وإذ قال ربك للملائكة
إنهم الملائكة، هذا الخلق من خلق الله المجبول على الطاعة والخضوع والعبادة ومع ذلك تحاوروا مع الله خالقهم، والخالق العظيم لا ينكر عليهم ولا يسكتهم ولا يقول هذه إرادتي وإني لكم أن تتكلموا أو تتعجبوا أو تستنكروا.. بالعكس يفسح الله المجال للملائكة لتتحاور معه ويستخدم أرقى أنواع الحوار سبحانه وتعالى، فقد كان الله قادرا على أن يقول لهم إني كرمت آدم لأنه يعلم الأسماء كلها وكان بديهيا أن تصدق الملائكة كلام الله، ولكن الله يعلم آدم الأسماء أولا ثم يعرضهم على الملائكة ويطلب منهم أن يخبروه بالأسماء فتعجز الملائكة، فيطلب الله من آدم إخبارهم فيخبرهم آدم فيعقب الله عز وجل منهيا الحوار. إنها حالة الحوار الديناميكية.. حالة ممتدة حية متفاعلة ليرسخ المعنى في النفوس.. ويكون الدرس للجميع… درس لآدم ودرس للملائكة ودرس لكل مخلوقات الله "أن الحوار أداة عظيمة لاتغفلوها حتى مع الله الخالق البارئ المصور" لأن هذه الأداة ستساعدكم أيها البشر لتعيشوا حياة أفضل وأكثر يقينا وأفضل فهما.

لم يكتف الله الخالق العظيم بتقرير الحقيقة وهي لن تراني ولكنه أراد سبحانه وتعالى، أن يرى موسى بهاء الله وعظمته فتجلى الله للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا.

٢- ربي أرني كيف تحيي الموتى
إن الخليل إبراهيم استوعب درس حوار الملائكة فلم يجد مانعا أن يتحاور مع ربه، فيتوجه بكل فهم للإيمان وحقيقته إلى الله بالطلب والسؤال مباشرة.. "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ" ليرد الخالق العظيم بتساؤل هو الأعلم بإجابته أولم تؤمن، ولكنه يؤكد على معنى الحوار، فالله عز وجل يسأل إبراهيم ليفتح باب الحوار فلا مصادرة على رأي أحد أو رغبته في التساؤل، فلا سؤال مرفوض ولا حدود للحوار.. مع من.. مع الله عز وجل.

سيدنا إبراهيم لم تحدثه نفسه أنه لا يصح أن يسأل لأن ذلك قد يقدح في إيمانه بل بالعكس وجد الحوار والسؤال هو الوسيلة المثلى للاطمئنان "بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي". إنه الدرس العظيم؛ أن وسيلة الاطمئنان هي التساؤل والحوار وليس الامتناع عن السؤال وكبته لتتفاعل الشكوك في النفوس وتعشعش في القلوب. وللمرة الثانية لا يجيب الله إجابة شفوية أو نظرية ولكنه يقيم الحوار العملي القائم على الحجة والبرهان ليدحض الشبهة بشكل واقعي يستوعبه العقل البشري فيكون الطلب من إبراهيم أن يحضر الطير ويضع عليهم علامة ليزيد اطمئنانه أنها نفس الطير التي وزعها.

إنها تجربة صعبة وظروف مستحيلة لإجراء التجربة لأنه كان من الممكن أن يكون الإثبات ببساطة أن يحضر إبراهيم طيرا ميتا فيحييه الله أمامه وتنتهي القضية، ولكنه الدرس ببذل المجهود في إثبات نظريتك لمن تحاوره ولا تستسهل بل احترم من تحاوره واحترم سؤاله وحاجته للفهم.

3- ربي أرني انظر إليك
إنه موسى كليم الله يسير على نفس الدرب وهو من كلمه الله من غير وسيط ورأى الآيات الخارقة ولكن تاقت نفسه لرؤية الله، وأيضا لم يكن الرد وكيف تجرؤ على أن تفكر في هذا الطلب بعد كل ما رأي، فأنت الوحيد الذي كلمته، وأنت من فرقت له البحر، وأنت من أهلكت فرعون وجنوده من أجله، ولكن يقين موسى في حقه في التحاور مع الله جعله يطرح طلبه ولا يتوقع رفضا أو تقريعا أو توبيخا رغم أنه يتحاور مع خالق الكون.

وللمرة الثالثة يكون الحوار العملي وليس الحجة الشفوية هو سبيل الاقناع.. لم يكتف الله الخالق العظيم بتقرير الحقيقة وهي لن تراني ولكنه أراد سبحانه وتعالى، أن يرى موسى بهاء الله وعظمته فتجلى الله للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا. أن الله يتجلى والجبل يندك وموسى يصعق من أجل سؤال عبد من خلق الله أراد أن يفهم ويستوعب ويطمئن ويرى الخالق العظيم، فيحاوره الله بقدرته وعظمته ليتم الحوار على أعلى مستوى وينتهي بأفضل طريقة ربما كان لا يتصورها موسى وهو يطلب أو يتوجه بسؤاله.

4- هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء

لا يكتفي القرآن بتقديم هذا النموذج الفذ للحوار مع الله بل ويبين للناس متى يكون الحوار جدلا غير مفيد من خلال قصة تسمى سورة بأكملها بعنوانه.. إنها سورة البقرة وقصة بني إسرائيل.

إنها نفس رحلة الاطمئنان ولكن أبطالها هذه المرة هم الحواريون، يتوجهون بالسؤال هذه المرة عبر وسيط هو المسيح عليه السلام.. والمسيح لا يرى مشكله في أن يتحاور مع خالقه وينقل إليه سؤال خلقه ليتوجه بالدعاء أو قل السؤال لله عز وجل "اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا.." إنها نفس المنهجية وهي التحاور والإجابة على السؤال والتحقيق العملي للمطلوب.

5- القرآن الكريم
لتكون المعجزة الخالدة لآخر الرسالات عبارة عن كتاب قائم على الحوار والتحاور وإقامة الحجة ودحض الشبهة من أول كلمة إلى آخر سطر عبر رحلة طويلة يتحاور فيها الخالق سبحانه وتعالى مع خلقه عبر القصص وعبر المنطق السليم وعبر الدعوة للتفكير بكل الطرق والأساليب، ليكون الحوار الممتد عبر الزمان والمكان مع كل العالمين بصورة يستوعبها كل عقل وترسخ في كل نفس.

ولا يكتفي القرآن بتقديم هذا النموذج الفذ للحوار مع الله بل ويبين للناس متى يكون الحوار جدلا غير مفيد من خلال قصة تسمى سورة بأكملها بعنوانه.. إنها سورة البقرة وقصة بني إسرائيل مع الجدل المقيت والحوار الذي لا يستهدف اطمئنانا أو وصولا للحق، ولكن يستهدف مماطلة ورغبة في طمس الحقائق ليكون عقاب هؤلاء هو قسوة قلب عن رؤية أي حق أو اطمئنان به لأنهم أساؤوا استخدام الحوار

لتصبح عجيبة العجائب أن أكثر من يرفضون الحوار، ولا يقوم طريقا أساسيا في حياتهم هم المسلمون بل ويتصور بعضهم أن من حقه أن يفرض إرادته على الناس ويصادر على حقهم في التساؤل والحوار والفهم والاطمئنان رغم أن الله عز وجل كفلها لخلقه وتحاور معهم في كل موضع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.