شعار قسم مدونات

الخطاب المشيخي والشباب المعاصر

blog - شيخ الأزهر

لا أريد من القارئ الكريم أن يفهم من العنوان أني أزدري المشايخ والعلماء والدعاة. كيف ذلك وتحت ركبهم تربينا وعرفنا أبجديات العلم وتذوقناه؟ ولا يشك أحد أن العلماء الربانيين كانوا ولايزالون صمام أمان المجتمع الإسلامي. لكني لاحظت كما لا أشك أن كثيراً من أبناء الصحوة الإسلامية وغيرهم لاحظ أيضاً نوعاً من "السخط العام على الخطاب المشيخي" على حد تعبير بعض الظرفاء، خصوصاً لدى الشباب في عصرنا الحالي.

أقصد بـ "السخط على الخطاب المشيخي"، أن الشباب لم يعودوا يثقون في خطاب المشايخ والعلماء، ولم يعودوا يستشيرونهم ويطلبون رأيهم وتوجيههم في مدلهمات الأمور الفكرية والسياسية والعلمية بشكل عام، والتي تعصف بهم في كل حين. بل إن شباب الصحوة الإسلامية فضلاً عن غيره، لا يعرف ولم يعد يسمع عن كثير من العلماء والمفكرين الأكفاء الذين لهم مشاركات جليلة في أمور الفكر والسياسة وغيرها. الآن، دعونا نستعرض مجموعة من الأسباب، التي لها في رأيي دور كبير في توليد هذا السخط من الخطاب المشيخي لدى الشباب المسلم، وسأكتفي بذكر بعضها في حدود ما تسمح به التدوينة:

نجد كثيرا من التشنجات لدى كثير من العلماء عندما يُعرض عليهم سؤال أو شبهة متعلقة بقضية ما مثل قضايا الإلحاد وسؤال وجود الله

لا أشك لوهلة أن من بين أهم الدوافع لهذا التشنج في نفوس الشباب هو المواقف المخزية والصادمة لبعض العلماء والدعاة تجاه قضايا ذات طابع سياسي أصالةً، لكن كانت لها انعكاسات فكرية واجتماعية، وقد اتخذ هؤلاء العلماء والدعاة موقفاً خاطئاً بل مشيناً ثم حاولوا أن يجدوا له بعض التبريرات الواهية التي لم تنطلِ على أحد. ويصعب جداً أن نعتقد فضلاً على أن نقتنع بأن هذه الآراء أو المواقف التي اتخذها هؤلاء هي من قبيل الاجتهاد المنطلق من التجرد بغية الوصول الى الحق، بقدر ماهي آراء صادرة إما عن ضغوطات الأنظمة السياسية الحاكمة كما هو الحال في أغلب الأوقات، أو عن تملق بعضهم ومغازلتهم للسلطة من أجل نيل الحظوة ومشياً على منطق "كن ملكياً أكثر من الملك". قضية الخلاف الخليجي الأخير تصلح للاستدلال على هذه الدعاوي، وليُقس ما لم يُقل!

سبب آخر لتراجع ثقة الشباب في العلماء والدعاة هو عدم تجديد آلية الخطاب، والمقصود بتجديد آلية الخطاب ليس هو تجديد فحوى الخطاب أو مضامينه بالرغم من أنها تحتاج الى تجديد في كثير من الأحيان، لكن المقصود هو اتخاذ أسلوب خطاب ونقاش ومحاورة يناسب الشباب المعاصر لهم. فالحاصل أننا نجد كثيراً من الشباب لا يرتاح لخطاب كثير من العلماء، ويجده معقداً أو غير مقنع أو يتسم بشيء من التعالي والغرور المعرفي. ولا أنكر أن في بعض هذه الدعاوي مبالغات وبعضها قد يكون مجرد اتهامات، لكن كثيراً منها له أساس من الصحة. وقد شهدت شيئاً من ذلك مراراً من طرف مشايخ يسألهم شباب أسئلة مشكلة ومركبة تحتاج الى أخذ ورد وتفصيل، لكن يجيب الشيخ إجابة مختصرة من جملتين كأنه يعطي فتوى لسائل، وإذا ألح الشاب واستطرد في إيراد الإشكالات يغضب الشيخ وتتغير نبرة صوته وقد يُعرض عنه. فيرجع الشاب غير مقتنع ولا يجد تأصيلاً شافياً يريحه، وقد يُعرض هو أيضاً عن عرض إشكالات مستقبلية على العلماء. لذلك نجد أن كثيراً من هؤلاء الشباب ينصرف الى الخطابات والكتابات التغريبية والحداثية ذات الأهداف المنحرفة، فيرتاح لها ويجد فيها مبلغه ليس لما فيها، لكن للغتها التي تجذب قلوبهم وأسئلتها الجريئة، واستطراد أصحابها في الإجابة عن الإشكالات بتفصيل.

هذا يقودنا لسبب آخر له علاقة بالأول وهو المواقف المتشنجة لبعض العلماء في الرد على إشكالات الشباب. وهذا له أمثلة ونظائر في موضوعات متعددة، حيث تبرز ردة الفعل المتشنجة من بعض أهل العلم، وربما يجد البعض منهم تبريراً لها أو تسويغاً مستقدَماً من تعاملات بعض علماء السلف المعروفين مع طلبتهم أو سائليهم. وبالنظر في الآثار عن السلف رحمهم الله سنجد فعلاً بعض هذه المواقف وهي كثيرة. من مثل ذلك موقف الإمام مالك رحمه الله المشهور من السائل عن صفة الاستواء، وغيرها من المواقف.

جانب من صلاة الجمعة بالمركز الإسلامي بكتانيا ثاني أكبر مدن جزيرة صقلية الإيطالية.
جانب من صلاة الجمعة بالمركز الإسلامي بكتانيا ثاني أكبر مدن جزيرة صقلية الإيطالية.
 

الحقيقة أن هذه الآثار لن تسعف من يستدل بها أو يعتمدها كمنهج للتعامل مع أصحاب الأسئلة المغرضة أو الأسئلة التي تبحث في مواضيعَ معقدة يرى العالم أن الاستطراد في الحديث عنها مع السائل قد يؤدي الى تأصيل بدعة أو شبهة أو فكر منحرف، وإن كان السائل يقصد السؤال وتوضيح المفاهيم حقيقةً وبحسن نية. فتجد كثيرا من هذه التشنجات لدى كثير من العلماء عندما يُعرض عليهم سؤال أو شبهة متعلقة بقضية ما مثل قضايا الإلحاد وسؤال وجود الله.

فهذه المواقف ونظيرها تعد مواقف شاذة اتخذها علماء أجلاء لاعتبارات أو لغير اعتبار بالمقارنة مع مجمل تعامل السلف مع الإشكالات التي يطرحها عليهم غيرهم فيناقشون ويردون ويستطردون بل ويناظرون، والمنقول في هذا من قبيل ما تنقطع الأعمار دون استقصائه إذ هو الأصل.

أدعو نفسي وشباب الصحوة الإسلامية المهمومين بمشاكل الأمة إلى التجرد لله في طلب الحق والتسلح بالعلم النافع حيث كان

ثم إذا صدر هذا من هؤلاء العلماء في هذه القرون المتقدمة، فقد يكون مفهوماً ومُسوغاً، على عكس هذه الأعصر التي يعيش فيها المسلمون وبخاصةٍ الشباب موجة من العصف الفكري والحيرة المعرفية، بل والجهل بأبسط المعارف الدينية، ناهيك عن الحصار الذي يخضع له الدين بسبب الاستشراء العلماني وانتشار المذاهب والتيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة.

سبب أخير ذو أهمية كبيرة أيضاً له تأثير في تشنج نفسية الشباب المعاصر من المشايخ وخطابهم، هو زهد هؤلاء العلماء في الدراسة والإحاطة ولو بشكل مجمل بالعلوم العصرية (العلوم الإنسانية وبعض العلوم الطبيعية)، واكتفائهم بدراسة العلوم الشرعية. إذ أن الشباب اليوم يَعدون من لا يشارك في هذه الفنون بعيداً عن ساحة الفكر والمعرفة والواقع. لاسيما وقد ثبت أن جل القضايا الفكرية المطروحة على الساحة، التي لابد للشرع فيها من مقال، لها تعلق بهذه العلوم ولابد، وأصبح التعريج عليها من كمال المناقشة والاستدلال.

والحقيقة أن كثيرا من العلماء وطلبة العلم اليوم "عزفوا" عن دراسة هذه العلوم لأسباب يتعذر استقصاؤها في هذا المقال. وقد استعملتُ لفظ العزوف للإشارة لمعنى الترك بعد الإتيان، ذلك أن جُل علماء الأمة الكبار من المتقدمين قد جمعوا بين العلم الشرعي والإحاطة بالعلوم المنتشرة في عصرهم من فلسفة ومنطق وترجمة وسياسة ودراية بتاريخ الأمم وفرقهم وأفكارهم. علماء كانت لهم مشاركات كبيرة في شتى المجالات كـ (ابن حزم وابن تيمية وابن القيم والغزالي) ومن المتأخرين من أمثال (الندوي والمودودي وعلال الفاسي وتقي الدين الهلالي وأبو بكر الجزائري وفريد الأنصاري رحمهم الله)، وكثير من المعاصرين الذين نجلهم عن الذكر. هذا نموذج "العالم المثقف"، وهو "عملة نادرة "على حد قول الأستاذ إبراهيم السكران فك الله أسره.

هذه عزيزي القارئ، بعض الأسباب للمشكلة التي طرحتها، ولا شك أن القضية تحتاج الى بسط وإسهاب، لكن أرجو أن أكون وضعت بعض ملامح البيان على أصل الإشكال. وأدعوا نفسي وشباب الصحوة الإسلامية المهمومين بمشاكل الأمة الى التجرد لله في طلب الحق والتسلح بالعلم النافع حيث كان، كما أدعو المشايخ الى الصدع بالحق وتقوى الله في علمهم والاستجابة لمحاولات التجديد الهادفة، وإلى الرأفة بالشباب التائه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.