شعار قسم مدونات

مصير القانون الدولي

مدونات - محكمة العدل الدولية
 
ظل القانون الدولي لفترة طويلة محط بحث القانونيين على المستوى الدولي، وظلت القواعد القانونية التي ينتجها القانون الدولي مثار تساؤلات وجدالات لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، ونُسجت حول هذا القانون نظريات ودراسات فقهية شملت مختلف الميادين والفروع المرتبطة بالنظام القانوني الدولي ككل. وفي زخم النقاشات التي يعرفها القانون الدولي باستمرار، تطفو على السطح مشكلة القوة التنفيذية لهذا القانون، وهي أحد الإشكالات المؤرقة للباحثين القانونيين، وإحدى أعوص التحديات التي تواجه القانون الدولي، وفي خضم ذلك يتم طرح تساؤل جوهري حول مصير القانون الدولي أمام الانتهاكات المتتالية لقواعده التي وُضعت لا ليتم انتهاكها وإنما لاحترامها وتطبيقها من طرف المخاطبين بها وعلى رأسهم الدول.

إن ما يشهده العالم اليوم من انتهاكات وخروقات لقواعد القانون الدولي، تُعيد طرح السؤال حول جدوى وجود قانون دولي أصلا، مادامت قواعده لا تتمتع بالقوة التنفيذية، وما دام أنه يتم الدهس على المبادئ التي قامت من أجلها منظمة الأمم المتحدة ووُضعت قواعد قانونية دولية.

من وجهة نظر قانونية، القانون الدولي يبقى قانون قائم بذاته، له قواعده وميكانيزماته التي يشتغل بها، وله قوة إلزامية تجاه المخاطبين بقواعده، بما يعنيه ذلك من توقيع الجزاء والعقاب على كل مخالفة وخرق للقواعد التي ينص عليها. ورغم مقبولية هذا الطرح قانونيا ومن الناحية النظرية، فإنه ومن الناحية العملية يبقى تطبيق القانون الدولي على أرض الواقع بعيد عن المأمول ومخيبا لكل الآمال.

الممارسة الدولية ما فتئت تؤكد أن هذا المبتغى ظل حبر على ورق، بحيث أنه لا يمكن الحديث عن سلم أو أمن دولي في ظل أوضاع الحروب والقلاقل والاضطرابات التي تعرفها مختلف مناطق العالم.

إن الأمثلة على الانتهاكات الخطيرة لقواعد القانون الدولي كثيرة، ويوم عن يوم تطالعنا الأخبار عن ضحايا ومآسي نتيجة الخروقات المتكررة للقانون الدولي، هذه الخروقات التي لا يقتصر حدوثها في حالات السلم، فهي تتزايد مع تنامي الحروب والصراعات الإقليمية، حيث ترتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب يندى لها الجبين، هذه الأفعال التي تتخذ مختلف الأشكال والأساليب وتُمارس في أحيان كثيرة في واضحة النهار وبطرق بشعة لا تخفى على أي متتبع.

هذه الأفعال إذا ما نظرنا إليها من وجهة نظر قانونية هي أفعال تقع تحت طائلة القانون الدولي بفرعيه القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لكن آثار القانُونَين لا يطال مرتكبي هذه الجرائم، وتبقى الآليات الدولية لمتابعة تنفيذ القانون الدولي وأساسا هيئة الأمم المتحدة عاجزة أمام استمرار الخرق السافر لقواعد القانون الدولي، حتى أضحت هذه الهيئة وبأجهزتها المختلفة تكتفي فقط بالتنديد وبالتصريحات الشفوية والكتابية المعبرة عن الأسف والاستياء مما يقع من انتهاكات للقانون الدولي.

لقد قامت هيئة الأمم المتحدة في الأساس لحفظ السلم والأمن الدوليين، وهي أحد المقاصد الأساسية التي تبنتها في ميثاق سان فرانسيسكو المؤسس لها، وتقنين القانون الدولي وصياغة قواعده جاء لتجسيد هذا المقصد الذي كان منطلق لولادة نظام قانوني دولي. لكن الممارسة الدولية ما فتئت تؤكد أن هذا المبتغى ظل حبر على ورق، بحيث أنه لا يمكن الحديث عن سلم أو أمن دولي في ظل أوضاع الحروب والقلاقل والاضطرابات التي تعرفها مختلف مناطق العالم، حتى باتت هناك ما يُطلق عليها ببُؤر التوتر في الإشارة إلى المناطق التي تشهد هذه الاضطرابات. ورغم المساعي الدولية التي تُبذل التي لا يمكن إنكارها لتطوير قواعد القانون الدولي في اتجاه تنفيذ مقتضياته على أرض الواقع، وترتيب المسؤولية عن الانتهاكات والخروقات لقواعده، إلا أن هذه المساعي غالبا ما تصطدم بمقاومة التي تكون شرسة أحيانا، تحت مبررات متعددة، على رأسها الاحتجاج بمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

وعلى الرغم من التطورات التي عرفها ويعرفها القانون الدولي في اتجاه الحد من مبدأ سيادة الدول من سيادة مطلقة إلى سيادة مقيدة، خاصة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان التي يعالجها القانون الدولي لحقوق الإنسان، إلا أن الممارسة تُبين أن الدفع باحترام السيادة وعدم التدخل في الأمور الداخلية للدول، ما يزال يُشكل مانع واقعي أكثر منه قانوني أمام إنفاذ قواعد القانون الدولي على مستوى الأنظمة القانونية الداخلية للدول.

مصير القانون الدولي مرتبط بشكل أساسي بمدى إنفاذه قواعده، وهي المسألة المرتبطة هي الأخرى بالإرادة الدولية من جهة، وبوجود آليات قادرة على ترتيب القوة التنفيذية للقواعد القانونية الدولية من جهة ثانية.

هذه المعضلة التي يعاني منها القانون الدولي، تجعل منه في نهاية المطاف قانون جامد، قواعده تُولد ميتة، وحتى الآليات الموكول لها تنفيذ القانون الدولي تبقى ضعيفة، وبعيدة من تحقيق التنفيذ الفعلي على أرض الواقع، فآلية القرارات على سبيل المثال التي تصدرها سواء الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، غالبا ما لا يتم الالتفات لها ولا يتم أخذها على محمل الجد وتطبيقها من قبل الدول التي تهمها هذه القرارات، كما أن التحقيقات التي تُجرى على الصعيد الدولي وتحت إشراف الأمم المتحدة غالبا ما تواجه صعوبات ولا تخرج بالنتائج المرجوة، وحتى إن تم التوصل إلى نتائج وخلاصات وفق معلومات ومعطيات، فلا يتم ترتيب الآثار القانونية، ويبقى التمصل من إعمال القانون الدولي سيد الموقف.

وتبقى الآليات القضائية الدولية أحد الآليات الردعية لتطبيق قواعد القانون الدولي، فقد شكل على سبيل المثال إنشاء المحكمة الجنائية الدولية تطور جوهري وحاسم في القانون الدولي، من خلال منح المحكمة صلاحية وسلطة متابعة ومحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، والتي تقع تحت طائلة القانون الدولي الإنساني. ومع ذلك فالآليات القضائية هي الأخرى تواجه صعوبات جمّة في إعمالها على المستوى العملي، بل إن هذه المحكمة التي أنشئت سنة 2002 ماتزال تواجه تحدي مصادقة الدول على نظامها الأساسي المنشئ لها.

إن مصير القانون الدولي مرتبط بشكل أساسي بمدى إنفاذه قواعده، وهي المسألة المرتبطة هي الأخرى بالإرادة الدولية من جهة، وبوجود آليات قادرة على ترتيب القوة التنفيذية للقواعد القانونية الدولية من جهة ثانية، ومما لا جدال فيه أن الانتهاكات المتتالية للقانون الدولي تجعل من هذا الأخير مجرد نوايا وآمال مكتوبة، لا ترقى لدرجة القانون الذي من خصائصه الجوهرية الإلزامية وترتيب الجزاء عن مخالفته ولو بالقوة المشروعة إن اقتضى الحال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.