شعار قسم مدونات

لماذا الإصرار على إغلاق الجزيرة؟

blogs - قناة الجزيرة
يصر حلف "المقاطعة والمحاصرة" فرض الوصاية على دولة شقيقة وإخضاعها والنيل من سيادتها وقرارتها الوطنية، فقدموا شروطا وأعلنوا استمرار حصارهم ما لم تلتزم الدولة المحاصرة بمطالبهم. وعلى الرغم من حماقة تلك المطالب وبعدها عن المنطق والسياسة المتعارف عليهما دوليا، إلا أن أكثر ما أثار حفيظتي واستهجاني وما حداني حقا لكتابة هذه التدوينة طلبهم إغلاق قناة الجزيرة بحجة أنها منبر مساند للإرهاب داعم للتطرف ومحارب للاعتدال!! فهل مكافحة الإرهاب السبب الحقيقي لإغلاق الجزيرة؟! ولماذا الإصرار على إغلاق القناة؟

قبل الإجابة على استفهامي سأوضح الأمر للقارئ عبر تسلسل زمني لتطور الإعلام العربي وما تلاه من تطور مضطرد في وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيره على المتلقي العربي.

فقد كنت أظن أن اتساع أفق التواصل الاجتماعي وتعدد القنوات الفضائية العربية وتطورها حديثا أخرج مجتمعاتنا من دائرة معارف تقليدية صنعت لهم قديما مرجعا فكريا واحدا، فلم يكن هناك إلا شاشة تلفاز صغيرة تجتمع كل الأسرة أمامها تشاهد ذات البرنامج اليومي وفقراته المكررة ونفس المسلسل الذي يعرض عند السادسة مساءً على القناة الأرضية أو إحدى قنوات الدول المجاورة، ونشرة أخبار الثامنة التي تمجد القائد وتحركاته واستقبالاته ولا تعرض إلا كل "ما يسر البال"، وأغان وطنية تتغنى ببواسل الجيش الوطني وصولاته وجولاته على ثغور الوطن العظيم يحمي الحمى ويصد كل من سولت له نفسه التفكير في التسلل شبرا قرب سياج الوطن وسده العالي المنيع، فلا حروب ولا فقر ولا بطالة ولا كتم للحريات فكأنها شاشة المدينة الفاضلة!!

تستهوي تلك الخزعبلات الناس وتشغلهم، ويتبادلونها بينهم فيظهروا بمظهر سخيف كما أُريد لهم

فكان تواصل الناس حينها محبين أو مكرهين عن خيرات الوطن والعيش الرغيد الذي ينعمون به، وينشغلون بذات الوقت بتأمين لقمة العيش! أو عن أحداث المسلسل الذي أشغل حواس الناس و"كسر الدنيا" وقتها، وما انتهى إليه وسرد توقعاتهم عن حلقته الأخيرة التي طالما انتهت كغيره من المسلسلات بنهاية درامية ساذجة يعود بها العشيق إلى عشيقته ويشفى المريض أخيرا من مرضه أو يعود الأب الذي غاب من منذ الحلقة الأولى سالما من سفره.

فغُيّب الناس بذلك عن قضايا الأمة الجوهرية وقضيتها المركزية فلسطين والأقصى والتحول الديمقراطي والثورات الصناعية التي اجتاحت العالم، وكان كلما خرج صوت ينادي بالإصلاح يتم كتمه حالا وتثار بعده فورا قضايا داخلية من رفع للأسعار أو زيادة في الضرائب لإشغال العقول فيها وتحييدها عن القضايا المصيرية.

إلا أن تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتعدد القنوات الفضائية كان يجب أن يفضي كما ظننت إلى اتساع تلك المعارف القديمة وتطور العقول والمطالبة بالحرية أسوة بمجتمعات العالم الحديث، إلا أنه لم يحدث ذلك التغير الملموس وظل السواد الأعظم من الناس متأثرين بنفس الإعلام القديم رغم تحديث الصورة الظاهرية له. فظلوا كما أُريد لهم قطيع، يسير أينما أراد له راعيه يؤمن بما يؤمن به ويصدق كل ما يدَّعيه ويخضع لإرادته بحماقة وسذاجة. بل أنك إن أنشأت صفحة على موقع "الفيسبوك" مثلا وألّفت إشاعة أو سمها معلومة من نسج خيالك وعززتها بصورة مناسبة، صدق معظم من رأى معلومتك المعلومة وحكى فيها واستغرب منها أو سبح الله تعالى من عظمها!! بل إن السواد الأعظم ذاته يتداول عبر "الواتساب" معلومات ودراسات وأخبار ومواضيع عامة ونصائح طبية وجمالية دون ذكر مصدر لها أو مرجع نعود إليه للتأكد منها ومدى صحتها أو على الأقل ليطمئن القلب حيالها.

ناهيك عما يُروَّج من دعايات تروج لنظريات المؤامرات الكونية على الأمة بأمور تافهة كمنتجات غذائية مسرطنة أو مشروبات لأسمائها دلائل معادية للدين أو العرق، ويدعون أن تلك المؤامرات حيكت لإخضاع الأمة رغم خضوعها المسبق ولكيد الدسائس حولها من المشرق والمغرب لتفتيت فتاتها وتجزيء جزيئاتها وبث روح الانهزام والتبعية لهم فيها وقتلها رغم موتها منذ عشرات السنين! فتستهوي تلك الخزعبلات الناس وتشغلهم، ويتبادلونها بينهم فيظهروا بمظهر سخيف كما أريد لهم ممن روج لتلك السخافات. وما زلت أتساءل أحلَّت مشاكل الوطن العربي وتحررت فلسطين وأصبحت دول كالعراق وسوريا وليبيا واحات أمن وأمان وعاد اليمن سعيدا واتحد الوطن العربي حتى تحاك علينا مؤامرات بأمور ساذجة؟

الأسباب واضحة جدا للمطالبة بإغلاق قناة الجزيرة وليس هناك شماعة اليوم أسهل وأفضل من شماعة الإرهاب

عزيزي القارئ، لا تصدق كل ما يُكتب أو يذاع أو يبث. فحتى ما شاهدته مثلا عن ذاك الجندي المسجى في كفن ملفوف بعلم الوطن والذي تم الاحتفال ببطولته على الشاشة "الوطنية" أو على قناة عربية إخبارية والذي كتب ببطولته شعرا لربما سقطت عليه قذيفة بإذن الله رحمة لأبرياء كانوا سيموتون برصاص بندقيته، أو قد أطلق النار عليه رجل انتقاما لابنه الشهيد الذي قتله الجندي وهو يدافع عن أرض الوطن ضد نظام فاسد ظالم قاتل وروى الشهيد تربة وطنه بدمائه الزكية، والذي قيل عنه ببعض القنوات العربية وصفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي زورا وكذبا وبهتانا أنه "داعشي" تم التخلص منه بفضل وتعاون ثلة من الجنود المؤمنيين وثلة من المواطنين الصالحيين!!

إن معظم وسائل الإعلام العربي والناطقة بالعربية أيضا عبارة عن إعلانات ودعايات مدفوعة الثمن لدولة أو سلطة أو جهة تبث باسمها وتعادي وتقاوم وسائل الإعلام الحر، ولا تعكس الواقع على حقيقته قبل إخراجه بالصورة الملائمة لها ولتوجهاتها، وليس أقرب لذلك مما نراه من حرب إعلامية من بعض القنوات الإخبارية العربية والأنظمة المحاصرة ضد قناة الجزيرة رائدة الإعلام الحر في الوطن العربي.

لنعد إلى الوراء قليلا لنستنتج أن قناة الجزيرة منذ تأسيسها كسرت حاجز الصمت في الدول العربية ما بين الشعوب والأنظمة الحاكمة فيها. فلنعقد مقارنة بين الإبادات الجماعية الوحشية التي قام بها الأسد الأب بحق الشعب السوري قبل قناة الجزيرة التي لم نعلم عنها إلا عند انتهائها وبين جرائم الأسد الابن اليوم بنفس الدولة ونفس الشعب والتي تغطى على مدار الساعة فهل كان من الممكن أن تنشأ ثورة سورية بذاك العهد إن وجد إعلام حر كالجزيرة مثلا مساند للشعوب المظلومة ضد أنظمة دكتاتورية شمولية؟! وهل توضحت تلك المقارنة للأنظمة الحاكمة اليوم على رأسها الدول التي حاصرت قطر؟ سأدع الإجابة لك أخي القارئ لكني لا أكتمك سرا إن قلت لك أن رياح الربيع العربي الذي هب على الدول العربية قبل سنوات خلت أقض مضجع الأنظمة المحاصرة وجعلها أكثر استيقاظا للحفاظ على عروشها وليس أخطر عليها من إعلام حر يوضح الحقائق وينبش بماض أسود لأسر اعتلت عروشا دون وجه حق.

هذا ولا ننسى فضح الجزيرة للادعاءات والمبررات الغربية لاحتلال دول عربية كالعراق مثلا التي واكبت وسخَّرت الجزيرة كل إمكانياتها البشرية والتقنية لبث وتوثيق جرائم وفظائع الاحتلال "الغربي" للعراق وفضح مبرراته الزائفة، وقد قدمت شهداء في سبيل تبيان الحقيقة فدون الجزيرة وقتها لما كنا على علم بيّن ومتابعة حقيقية ومباشرة للأحداث. وبطبيعة الحال فإن الأنظمة المحاصرة توازن دائما بين مصالحها ومصالح الدول الداعمة لها في حكمها وتلك الدول الداعمة يضر بمصالحها إعلام حر لدنيا قد يفضح مبررات الحروب العبثية لدى شعوبها .

فتلك الأسباب واضحة جدا للمطالبة بإغلاق قناة الجزيرة وليس هناك شماعة اليوم أسهل وأفضل من شماعة الإرهاب. فلم يستصعب المحاصرون الأمر فادعوا أنهم مكافحون للإرهاب والخطوة الأولى بمكافحة ذاك الإرهاب المزعوم إغلاق قناة الجزيرة!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.