شعار قسم مدونات

تقتلونَهم أم تحبونَهم؟

blogs طفل حزين

كلمةٌ طيبةٌ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في وعيـِنا مرتبطٌ بالبراءةِ والعفويةِ والمرحِ واللعبِ والانطلاقِ والمواقفِ الطريفة والمسامحةِ والشغف، إنها رمزٌ للجمال الفطري لنفسِ الإنسان قبلَ أن تنطبعَ عليها بصماتُ الأيامِ وأنفاسُ الحياةِ فيشوبُ بياضَها سوادٌ تراه عند الكبار بحُكم العمر وبحكمةِ الله..

إنها بخصائصِها كمَثَلِ سَهلٍ أخضرَ مبسوطٍ مفتوحٍ لا يحيطه حدٌ في ربيعٍ لطيفٍ، وقد هطلَ عليه غيثٌ خفيفٌ نفثَ في الجو رائحةَ الأرضِ العبقة إذ تغتسلُ وتنتعش فتشرحُ الأنفاس، لا ذبابَ ولا ضجيجَ ولا تلوثَ ولا كائن بل سلامٌ وهدوءٌ ونقاءٌ وصفاء، تضعُ يدكَ في بطنِ الأرضِ فتمرُ من بينِ أصابعِها حباتُ الترابِ الأحمرِ الدافئِ الطري، جاهزةٌ للغرسِ الطيبِ والعصافيرِ الغنـاء والشمسِ المتوهجة، متشوقةٌ للحكمةِ والموعظةِ الحَسَنة والمعاملةِ بالتي هي أحسن، هكذا هي "الطفولةُ" في أرضِ النفسِ البشريةِ التي ألهَمَها فجورَها وتقواها فتباينت تضاريسُها ومعالِمُها.

أتذكرُ أن طفولتي كانت حافلةً بالألعابِ والمغامراتِ والعقوباتِ من الأهلِ والتوبيخات والمجازفات وما شاءَ اللهُ من محطات عديدة متنوعة وغنية، أمضيتُ جزءاً كبيراً من وقتي في الحارةِ نختلقُ المشاكلَ ونبتكرُ ألعاباً تخيلية وشروطاً خاصةً بنا ونتنافسُ فيما بينـَنا ونشكلُ أحزاباً ومقراتٍ مخلوطينَ أولاداً وبنات، نتزحلقُ على الشارعِ المنحدرِ بقطعة "البلاستيك" الرقيقة ونبني قلاعاً من الطين ثم نهاجم الفريق الخصم ونشعل النارَ ثم نرمي فيها عُلبَ العِطرِ ومزيلَ العَرَق رغم تنبيهات البالغين، توسعت دائرةُ محيطِنا فتعرفنا على كثيرٍ من الجيرانِ وأنماطِ الحياةِ وعشنا الكثيرَ من المواقفِ والدروسِ التي شكلت شخصياتِنا الحاليةَ، والتي حُفرت في ذاكرتنا بشكلٍ جميلٍ يجعلنا نفخرُ أننا ملكنا مرحلةً أساسية _و هي الطفولة_ حيويةً ومفعمةً كهذه، عرفنا حياةَ الكِبار بهمومِها ومفاهيمِها ومسؤولياتِها لما قُضِيَ الأمرُ وفارَ تنورُ العمر وعندما حانَ الأوانُ فقط، فكنا أهلاً لها بما تقتضيهِ فأنجزنا ما شاء الله ونهضنا بأنفُسِنا وبمن حولَنا.

إن إهمالَ حالِ أطفالنا اليوم وتقاذفَ اللومِ من جهةٍ إلى أخرى والتقاعسَ عن بدأ إيجادِ الحلول واتخاذ الإجراءات الجادةِ لاستدراكهم لَيُنذِرُ ببؤسِ المستقبلِ القادمِ الذي تتأملُ فيه أمتـُنا أن يكونَ أفضلَ من حاضِرها، فالأطفالُ أملُ الأمةِ ومستقبَلُها

كل هذا الاستحضار يُوردُ ليَ بعضَ الحزنِ على أطفالِ اليومِ ذوي الطفولةِ المريضةِ والمرحلةِ المشوهةِ المعالمِ والمضمونِ عندَ تأملِ حالِهم، فقبلَ عدة أسابيعَ _في رمضان_ وعندما كنتُ في مسجدِ الحارةِ نتجمعُ من أجلِ صلاةِ التراويح، قد جلسنا _كما المعتاد_ بناتاً وفتياتٍ من أعمارٍ متنوعةٍ تتراوحُ بينَ الرابعةِ وحتى العشرين، جلسنا معاً وتحادثنا في عدةِ مواضيع، حتى إذا جاءت صبيةٌ كالنرجس في طلعتِها لا تزيدُ عن العاشرة وقالت بحماسة "شفتوا …. في مسلسل …. كيف تحرش فيها " فتحولتْ دفةُ الحديثِ إلى يدِ الصغيراتِ ذواتِ الصوتِ الرقيقِ بينما أخذنا _نحنُ الكبيراتِ الجامعياتِ والثانويات_ وضعيةَ المستمعِ المدهوشِ الذي لا يعرفُ كيف يدخلُ الحديثَ أو من أين يبدأ، فكنا نثني زوايا أفواهَنا ونهزُ رقابنا باتجاهاتٍ شتى ونتشابكُ بأعيُنِنـا مستغرباتٍ ومتأسفات .

إن أطفالَنا اليوم في مشكلةٍ مزمنةٍ وخفيةٍ لا يكادُ يلتفتُ إلى وجودِها وخطورتها أحدٌ إلا من رحم ربي، تنتشرُ بينَهم معدلاتُ السُمنةِ والكسلِ والخمولِ بل و"الغباءِ" الاجتماعي واللغوي والعقلي شئنا أم أبينا، تتسطحُ اهتماماتُهم لتتركزَ على الكسب الفارغ، كسبِ الطعامِ والنقاطِ في الألعاب وكسبِ النقودِ وكسبِ المزيدِ من الأجهزة والألبسةِ والحلوياتِ وغيرِها، حتى صرنا نرى منهم مدخنينَ ومدمنينَ ولصوص ومنحرفينَ جنسياً، على حسابِ المخزون الفكري والثقافي والوعي الاجتماعي والديني والصحة البدنية وبناء الشخصية، فقلما تجدُ اليومَ غلاماً يسمي لكَ عشراً من صحابةِ رسولِ الله _وهو عليه السلام رمزٌ لديننا وكذلك صحابتـه الكرام_ أو فتىً يحدثكَ بمنطقٍ وحجةٍ ليقنعكَ برغبةٍ كامنةٍ لديه في إنجاز مبتغىً معين أو حتى فتاةً تجيدُ وزنَ الأولوياتِ وتحمل المسؤولياتِ وقتَ الجد، ولكلِ قاعدةٍ شواذٌ بالطبع.

على الطرفِ الآخر الذي تجدُ فيه الأطفالَ عاملينَ وعُمالَ وأرباب أُسَرٍ تشردت وافترقَ أفرادُها بسببٍ حربٍ أو فقرٍ أو مجاعات، فانتشرت بينهم الأمراضُ والتشوهاتُ والأحزان والمعاناة التي قد لا يطيقها رجلٌ رشيد، وهذا القطاعُ _على قسوته_ لا يخلو من استغلال الأطفالِ بمنتهى أشكاله بما لا يحِلُ وبما يخدشُ براءَتهم فينسِفُ أحلامَهم ويعكرُ صفوَ وجودِهم فيذرُهم كأنهم أعجازُ نخلٍ خاوية .

إن إهمالَ حالِ أطفالنا اليوم وتقاذفَ اللومِ من جهةٍ إلى أخرى والتقاعسَ عن بدأ إيجادِ الحلول واتخاذ الإجراءات الجادةِ لاستدراكهم لَيُنذِرُ ببؤسِ المستقبلِ القادمِ الذي تتأملُ فيه أمتـُنا أن يكونَ أفضلَ من حاضِرها، فالأطفالُ أملُ الأمةِ ومستقبَلُها كما علَمنا آباؤنا الأولون. 

لا تسارعوا بالغضبِ تجاههَم ولا تُنكِروا أحلامَهم أو وجودَهم فيتجنبونكم بل دربوهم على مواقفِ الحياةِ وشجعوهم على الخروجِ والاستكشافِ والمطالعةِ والتعبيرِ دونَما خوفٍ أو تردد

لذلك أنادي من كلِ فجٍ عميق، وتنادي معيَ الأفئدةُ الصغيرةُ الجميلةُ العاجزةُ عن إدراك الوضع أو إنقاذه، وتنادي معي بقايا كلِ ضميرٍ مُحِبٍ حريص حافظٍ للإنسانيةِ ومتطلعٍ لمستقبلٍ أفضل، أن يتحركَ الأهلِ لإنقاذِ أطفالهم قبل أن تصعبَ المهمةُ أكثر، أن يُفعِلَ الآباءُ دورَهم تجاه أبنائهم بشكلٍ أكثرَ عمقاً وتوجيهاً، لا بتوفير الماديات والسعادة "الظاهرية والآنية" فقط وترك الطفلِ فريسةً للمسلسلاتِ والآفاتِ الإلكترونية والاعتلالاتِ النفسيةِ وغيرِها من الطوام، بل من خلال تخصيص وقت عائلي تجتمعُ فيه الأسرةُ في أحضانِ بعضِها فتتلاحمُ ويتحدثُ أفرادُها بينهم.

 

فتقوم الأمُ بأمومَتِها بدورِها في النصحِ والتربيةِ والوعظِ ويقوم الأبُ بدوره بالتهيئةِ والتعليمِ والإرشاد وإضفاءِ الشعورِ بالأمان وتعزيزِ الروابطِ الأسريةِ بالتواصلِ والمشاركة، فاتحينَ بذلك آفاق الطفلِ العقليةَ والدينيةَ والثقافيةَ والاجتماعيةَ والشخصيةَ، لا تُشبعوهم ألعاباً فقط بل أشبعوهم حباً وقُرباً واهتماماً حقيقياً يرقى بشخصيةِ الطفلِ ونفسِه فيجعلُ مستقبلـَه واعداً أكثـر، لا تسارعوا بالغضبِ تجاههَم ولا تُنكِروا أحلامَهم أو وجودَهم فيتجنبونكم بل دربوهم على مواقفِ الحياةِ وشجعوهم على الخروجِ والاستكشافِ والمطالعةِ والتعبيرِ دونَما خوفٍ أو تردد، علموهم الكتابَ والحكمةَ واجعلوا منهم معجزةَ التغييرِ المنتظر، فأطفالُكم هديةٌ من اللهِ ومشاريعُ استثمارٍ لكم في المستقبلِ وكذا الآخرةِ فكونوا رائعةً في حياتِهم يمتنون لها حتى بعد الممات .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.