شعار قسم مدونات

لسنا ملائكة

blogs- A Beautiful Mind فيلم
حين شاهدت فيلم العقل الجميل A Beautiful Mind لأول مرة منذ سنوات، والذي يعرض قصة عالم الرياضيات جون ناش، حينها ذرفت الكثير من الدموع تأثرا بصراعه الكبير مع مرضه النفسي الذي رافقه طوال حياته، كان عجيبا تخليه عن الأدوية وتعايشه مع مرضه بتجاهل الأشخاص الوهميين الذين يراهم، وتحديه للغريزة والرغبة في داخله للتصديق بوجود هؤلاء الأشخاص والتعامل معهم، لكنه يعرف جيدا أنهم غير موجودين، فيقمع مرضه ويمضي في الحياة إنسانا في تحد دائم مع نفسه، وهروبا متواصلا من مرضه إنسانا غريب الأطوار لمن لا يعرفه بطلا عظيما لمن يعرفه.
لكنني مع مضي الأيام وضجيج الحياة وجدت أننا جميعا مبتلون ابتلاء جون ناش؛ أليسَ في داخل كل منا مرض متأصل يؤرقه ويعيق حياته؛ يجعله يصدق أوهاما ويبني عليها قرارات، كل منا عليه أن يصارع صراع ناش ويتعايش مع حالته ليعيش بسلام، وجدت أننا جميعا إذا ما أردنا أن نصلح حالنا فعلينا أن نتحدى رذيلتنا المتأصلة وغريزتنا التي تدفعنا للسوء، نتحداها بطريقة تثير الشفقة، وتستحق أن تذرف علينا الدموع نحن أيضا.

فالكذب، البخل، الشك، السرقة، الطمع، الكبر، وغيرها… قد تكون صفات متأصلة بشكل مرضي لدى كثيرين وليس من السهل أبدا أن نكتشف هذه الصفات المرضية، لكن إذا كنا نتحرى العدل والإنصاف ونتأمل أخطاءنا، وإذا جربنا أن ننصت للمقربين الذين لم نتمكن من التفاهم معهم مثل الابن، الزوج، الأخ، الأم، الأب، الصديق، فربما ما نعتبره ثرثرة وضجيجا هو الحقيقة المهمة، إذا فعلنا ذلك قد نكتشف أمراضنا.

الحياة كلها ابتلاءات حتى خلايانا وكروموسوماتها فيها ابتلاءات، فجيناتنا تحمل من الصفات ما تحمل، أما نحن فعلينا أن نمتلك من الحكمة والعدل ما يكفي لكشف السيئ منها، ومن القوة والصمود ما يكفي لقمعها.

كم هو صعب أن يكتشف المرء أنه صاحب ظنون سيئة وشكوك لا منتهية، أن اعتقاداته عن الآخرين ليست إلا أوهاما رغم تيقنه التام منها، ثم الأصعب أن يقمع مرضه، فكلما ظن سوءا بشخص ما رفض الفكرة وتصرف على عكسها.. كم هو صعب أن يكتشف البخيل أنه بخيل وكلما حسب نفسه حريصا وصاحب إدارة حسنة؛ قمع قراره وتصرف بعكسه.. وأن يكتشف الطماع طمعه وكلما حسب نفسه ذكيا وصاحب دهاء وقوة قمع جشعه واستغلاله.

إنه الصراع الذي عليه أن ينشأ وعلينا أن نعيشه، علينا أن نشعر تجاهه بالفخر والحزن معا، ربما هذا الكفاح والسعي الدائم للاقتراب من العدل والخير، هو الكفاح الذي يوصلنا للجنة، لأن هؤلاء المصارعين والمكافحين يستحقون.. إنها النفس اللوامة التي تعرف مرض صاحبها ولا تمل من مراقبته ولومه إذا ما أراد اتباع مرضه، إنها التوبة النصوح لكل ذنب وهفوة والتراجع الحقيقي وعدم التمادي لعل المرء أن يشفى من مرضه وابتلائه أو يظل ملازمه، لكنه في ذات الوقت يستمر في رفض الانصياع للمرض ليكون بطلا كبيرا في معركة شرسه سرية خاصة به مجهولة في الأرض معروفة في السماء.

كم هو صعب أن نرى صورتنا كاملة بجانبيها المشرق والمظلم، أن نعترف بحقيقتنا وعقدنا، أن نتخلى عن السذاجة والكسل وخداع الذات الذي يطمئننا دائما أننا طيبون للغاية، وملائكة، وجميع من حولنا هم القساة الأشرار الذين لا يفهموننا. 

الكمال لله والحقيقة أن الحياة كلها ابتلاءات حتى خلايانا وكروموسوماتها فيها ابتلاءات، فجيناتنا تحمل من الصفات ما تحمل، أما نحن فعلينا أن نمتلك من الحكمة والعدل ما يكفي لكشف السيئ منها، ومن القوة والصمود ما يكفي لقمعها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.