الشعور بالوحدة كان قاسيا، قاسيا عندما ترغب في أن تشارك الضحك عن موقف طريف حضرته، أكثر قسوة عند جلوسك وحيدا في مطعم للغداء، أو عندما تريد أن توثق مرورك بمكان جميل بصورة، أو بالأحرى بعدة صور لتختار الأجمل لاحقا، فلا تجد أحدا برفقتك سواك. كان شعورا قاسيا في لحظات قليلة، لحظات سعادة عابرة يمكن أن نتداركها لاحقا. ولكن عزلتي كانت عاجلة، عاجلة لإنسان يريد أن يتدارك كل ما فاته وأن يصحح مساره الخاطئ. إنسان لا يقبل أن يدفن أحلامه في سن الثالثة والعشرين، سن التخرج والعمل، سن السجن في الأقفاص الذهبية لبعض، سن يتنازل فيه كثيرون عن سعادتهم الحقيقية، ليعيشوا سعادة مزيفة، ربما لأنها فرضت عليهم من محيطهم، أو لخوفهم من المغامرة والخروج من منطقة الراحة comfort zone، أو ربما لأنهم لم يأخذوا وقتا كافيا ليكتشفوا أنفسهم، ليعرفوا أين تكمن سعادتهم الحقيقية، فتبنوا بذلك، دون مقاومة، سعادةً سُوِّقَت لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل أخرى.
هي سنتان تقريبا من عزلة ما زالت مستمرة، بسعادة أشتقها من تقدمي في ذاك الطريق الصعب المليء بالتحديات والتضحيات. تقدم ربما سيوصلني إلى ما أطمح إليه أو سيتركني في مكان ما وسط الطريق. |
العزلة تجعلك تتحرر من الفاشلين. أعني بالفاشل ذلك الشخص الذي، بالإضافة إلى كونه يعيش بدون أهداف، ولا يضع تحديات لنفسه في حياته، هو ذلك الشخص الذي لا يحب النجاح للآخر، الساعي بكل جهده إلى تحطيمك لكي لا تنجح، ربما لأنك اتخذت أسلوب حياة مختلف، أو ربما لخوفه من تفوقك عليه. الفاشل هو ذلك الصديق الذي إذا رآك مقتنيا مجموعة كتب سيقول ما بالك تلعب دور المفكر، وأن هاته ليست أشياءك فوجب عليك أن تتركها لأناسها. هو أيضا ذلك القريب الذي إذا علم أنك ستتخذ قرارا شجاعا بإحداث تغيير جذري في حياتك، محفوف بالمخاطر، سيحاول إقناعك أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأنك يجب أن تستمتع بحياتك عوض كل هذه التضحيات.
وما استمتاعه هو بالحياة؟ مكوث على ظهر كنبة طيلة وقت فراغه أو بعد يوم عمل، يشاهد فيلما ذو رسالة سامية، أحيانا عن عظماء غيروا مجرى التاريخ أو عن أناس تحدوا كل الصعاب من أجل تحقيق أحلامهم. ينتهي الفيلم، يقلب جسمه للجهة الأخرى، ينام ليستريح من كسله، يستيقظ ليأكل، ثم ينام ليوم الغد، ليوم عمل كل ما يشده إليه هو راتب شهري. ينتهي الفيلم دون أن يتأثر بتلك الشخصية الملهمة ودون أن يترك مجالا لتلك الرسالة السامية أن تترسخ في مكان ما في كيانه.
لا تقتصر منافع العزلة في التحرر من الفاشلين فحسب، بل تتيح لك لحظات تأمل لا يمكن أن تعيشها بحضور الآخر، لحظات تجعلك تراجع نفسك، تختلي بها لتكتشفها أكثر، تجرب فيها أشياء جديدة بعيدا عن ضغط الآخرين. أنت اليوم لست سوى خلاصة سنين من حياة لم تخترها لنفسك، مجرد تحصيل لأشياء فرضت عليك. أذكر يوما كنت برفقة صديق لي، وبمجرد انتهائي من العزف على قيثارتي، وهو يرى أصابعي تتنقل من وتر لآخر دون أن أصوب نظري إليها، أنتفض مهنئا متعجبا، مؤكدا بيقين تام أنه من المستحيل أن يفلح يوما في إتقان هاته الحركات. قبل ثلاث سنوات كنت أتبنى نفس الفكرة، نفس المحدودية. كان على صديقي قبل أن يستنتج ما استنتج، أن يعطي لنفسه حق التجريب، وعندئذ، نجح أم لم ينجح، في كلتا الحالتين، أيا كان استنتاجه سيكون صائبا.
هي سنتان تقريبا من عزلة ما زالت مستمرة، بسعادة أشتقها من تقدمي في ذاك الطريق الصعب المليء بالتحديات والتضحيات. تقدم ربما سيوصلني إلى ما أطمح إليه أو سيتركني في مكان ما وسط الطريق. لكني أعلم يقينا أنني سأكون سعيدا في كلتا الحالتين، وسعادتي ستكون إما سعادة نجاح، أو محاولة نجاح.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.