شعار قسم مدونات

الشباب السّوريّ الثّائر والمسجد الأقصى

blogs - علم درعا على جدار مخيم درعا
في زحمة الدّم المتفجّر في سورية من شمالها إلى جنوبها ومن أقصاها إلى أقصاها، والدّمار الذي لم يُبق ولم يذَر حجرًا ولا بشرًا ولا عائلةً ولا نفسًا سويّة؛ يفاجئك الشباب السوريّ الثّائر إذ يطلّ من تحت الرّكامِ؛ ركامِ المنازل المهدّمة والنفوس المبعثرةِ واللجوء المُضني منتفضًا لأجل المسجد الأقصى المبارك، في مشهدٍ يبعثُ إلى جانب الفخر كثيرًا من الدّهشة؛ إذ كيفَ استطاعَ هؤلاء الشباب الغارقونَ بتفاصيلِ ثورتهم وقضيتهم وقد تُرِكوا وحدهم لها؛ المنشغلون تمام الانشغال في مواجهةِ أوحش استبدادٍ عرفه العصر؛ الباذلونَ الوقتَ كلّه ليدركوا بعض ما يستجد حولهم من متغيراتٍ متفجرةٍ في ميدانِهم؛ أن يخرجوا رؤوسهم سراعًا سراعًا من بحيرة الدّم التي أغرقتهم في سِنَةٍ من التاريخ ويهتفوا بلا تردّد ولا تباطؤٍ ولا تلكؤٍ ولا حساباتٍ للسّياسة وأهلها ملء قلوبهم وأرواحهم: لبيّك يا أقصى، ويستنكروا بوقفاتهم فرض البوابات!

يأتيكَ هتافُ الحناجرِ المرابطةِ عند بوّابات الأقصى في جمعة الغضب للأقصى بلهجتها المقدسيّة الساحرة: "من الأقصى إلى الشّام .. أمّة وحدة ما بتنهان" فيسري إلى الشباب السوريّ الثّائر فيزيدُهم توهّجًا.

يدهشكَ بل يذهلكَ لهفتهم وتحفّزهم وكأنّهم لم يتكبّدوا عناء ستّ سنين من ثورة تهدّ الجبال الرواسي، وتحسبُ أنّهم أنهكتهم الحربُ المترعةُ بالخذلانِ وقتلت فيهم الرّغبة بالإحساسِ بأيّ أحدٍ سواهم، لتكتشفَ بأنَّ قلوبهم التي حسبتَها ماتت من تكاثرِ السهام عليها وحيدةً في مرمى النّبالِ ما زالت دفّاقةً بالحياةِ التي يبعثها المسجدُ الأقصى كلّما مسّه وصبٌ أو تكالبَ عليه العدوّ الذي غدا ـ للأسف – وديعًا مقارنةً بوحشيّة آل الأسدِ الذين يجثو الطغاةُ والمحتلون تلاميذًا صغارًا أمام توغّلهم في الحقدِ والإجرام.

لم يغيّر تدفّق القدسِ في قلوبِ الشباب السوريّ الثّائر؛ متاجرةَ قاتليهم بها وقتلهم باسمها، فلم يزعزع تجذّرها في أرواحهم "فيلق القدس" الذي يقتلهم باسم الوليّ الفقيه، ولا "جندُ الأقصى" الذين داسوا علم ثورتهم وذبحوهم باسم تحكيمِ الشّريعة.. لم تفلح متاجرة النّظام السوريّ ومعها نظامُ إيرانَ بالقدسِ والمسجد الأقصى في أن تخبو جذوةُ الانتماء للأقصى في نفوسهم؛ فعلاقتهم بها علاقةٌ عضويّة رسّخ جذورها الدينُ والإيمانُ والوجعُ العميق والنزفُ المستمر والتركُ والخذلان العلنيّ.

من أمام بابِ الساهرةِ حيثُ يطيبُ للروحِ أن تسرحَ في فلكَ الأقصى المباركِ، يهدرُ صوتُ المتظاهرين عند التحامِ الصدور العارية إلَّا من الإيمانِ بالله والقدسِ والأقصى مع البنادق الرعديدة، لكَ أن تتخيّل أن يستحضرَ المتظاهرونَ أرواحَهم التي يفدونَ بها مدينتهم التي تنهشها أنياب التهويد، أو يهتفوا للأقصى المغلق، ويصدحوا رفضًا للبوّابات الالكترونيّة، ولكن أن يحضرَ في هذه اللّحظةِ جرحُ الشّامِ بهتافٍ يسري في جنباتِ الروح فيهزّها هزًّا فهذا والله شيءٌ عظيم، يأتيكَ هتافُ الحناجرِ المرابطةِ عند بوّابات الأقصى في جمعة الغضب للأقصى بلهجتها المقدسيّة الساحرة: "من الأقصى إلى الشّام .. أمّة وحدة ما بتنهان" فيسري إلى الشباب السوريّ الثّائر فيزيدُهم توهّجًا وهم الذين غدَوا من أول لحظات إغلاقِ الأقصى المبارك أبناءَه كما هم أبناء ثورتهم، ولم يجدوا أنفسهم للحظةٍ أمامه إلَّا كما هم أمام كلّ قطرةِ دمٍ تراقُ على مدرج الحريّة بل أعزّ وأكرم؛ فجنّدوا أنفسهم لكلّ تحرّكٍ وفعل، وأقلامهم لكلّ حشدٍ وتفعيل، فتعود للأذهان الحقيقة التي يرادُ لها أن تغيب وهيَ أنّنا أمّةٌ واحدة، ولن نهانَ بل لن يجرؤ على إهانتنا أحدٌ ما دمنا كذلك.

لا يشعرُ بجرحِ الأقصى مثلُ أهل الجراح الغائرة، ولا يعرفُ طعم خذلان الأقصى كمن ذاق الخذلان أصنافًا في دمه وثورته وقضيّته، ومَن غيرُ السوريّين عاشوا كلّ ذلك مجتمعًا بأعلى صوره وضوحًا؟!

في كلّ مرّةٍ كان يرتفعُ فيها علمُ الثّورةِ في باحاتِ المسجد الأقصى المبارك كانت ترتفعُ أرواحُ الشباب السوريّ الثائر فتعانق عنان السّماء، فلهذا العلمِ في هذا المكان رمزيّته ودلالته التي لا تخفى على أحد، وعندما كان يتحدّث شيخ الأقصى رائد صلاح عن الثّورة السوريّة ـ وهو الذي كانَ من السّابقين الأوّلين لمساندةِ حقّ الشعب السوريّ في حريّته وما خلَت كلمةٌ من أحاديثه عن الثورة السوريّة وإجرام نظام الأسد ـ فلا يشعر الشباب السوريّ إلَّا أنّه شيخهم بعدَ أن خذلهم مَن خذَلهم من مشايخهم في بلادهم، وعندما يسمعونَ الشيخ كمال الخطيب ـ وهو من أهم عناوين الأقصى ـ مخاطبًا جنود الاحتلال بكلّ رباطةِ جأشٍ وثقةٍ ويقين، بأنّهم لو قتلوا أهل القدس وأهل فلسطين جميعًا " فوالله إنَّ أجيالًا في شام العزّ تتوثّب؛ فأينَ المفرّ؟" فإنّهم يستشعرون توثّب الضّياغمِ في أعماقهم وهم يرَون عيونَ الأقصى الرّانية إليهم ودمع الخذلان يملؤها.

غيرَ أنَّ ثمّةَ معنىً عميقٍ إلى جانب مفهومِ الأمّة الواحدةِ هو ما يحرّك الشباب السوريّ الثّائر نحو القدس والأقصى ويحرّك أهل القدس والأقصى نحو ثورة الشّام وسوريّة المباركة، وهوَ "أخوّةُ الجرح" فإنّ المكلومينَ أشدّ تأثيرًا ببعضهم بعضًا إذا تعانقت جراحُهم وتآزرت آلامُهم؛ فيسارعُ كلٌّ منهم إلى تضميدِ جرحِ أخيه رغم أنَّ جرحه النّازف متروكٌ مخذول؛ فكم كان لحملةِ الإغاثة والدّعم التي نظّمها أهل القدسِ نصرةً لحلبَ إبّان حصارها الأخير والمرير من أثرٍ متفرّدٍ مختلفٍ عن حملاتِ الإغاثة والدّعم التي تمّ تنظيمها في بقاع عدّة للغرضِ ذاته، وكذلكَ هو الحالُ عندَ اهل القدسِ اليوم، فإنَّ وقفةً من السوريين تحت نيران القصفِ أو فوق ركام المنازلِ المهدّمة، أو في خيام اللّجوء ومواطنه المحشوّة بغصص الألم لهيَ أعمق تأثيرًا في نفوسِ أهل القدس من غيرها من الوقفات والحشود العظيمة، وفي كلٍّ خير.

فلا والله لا يشعرُ بجرحِ الأقصى مثلُ أهل الجراح الغائرة، ولا يعرفُ طعم خذلان الأقصى كمن ذاق الخذلان أصنافًا في دمه وثورته وقضيّته، ومَن غيرُ السوريّين عاشوا كلّ ذلك مجتمعًا بأعلى صوره وضوحًا؟! ورغم أنَّ الشّباب السّوريّ الثّائر لم ينتظر توجيهًا من أحدٍ ليهبّ لأجل الأقصى، ويتفاعل مع القدس وأهلها الثائرين، ولم يستأذن أحدًا ليعلنَ عن نفسه وانتمائه للحقّ الجريح الذي تمثّل القدس وأقصانا فيها عنوانه، إلَّا أنّه يستحقّ كلّ التحيّة في زمنٍ تقاعسَ فيه الخِفافُ من الأعباءِ عن نصرتها ولو بكلمة، فألفُ تحيّة للقدسِ وأهلها والأقصى والمنافحين عند بوّاباته، ومثل ذلك للشباب السوريّ الثّائر المثقل بكلّ هذا الهمّ الذي لم يشغله عن النفير للأقصى بصوته وحنجرته وقلمه وتفاعله وتفعيله جهد استطاعته، فألف تحية لكم يا أبناء أمّي؛ أمّي الثّورة التي لم ولن تموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.