هذه المأساة تحصل أمام أعين آلاف من أرباب الأموال الجزائريين الذين يتوفَّرون على أرقام هائلة في حساباتهم البنكيَّة في الداخل والخارج، ولو فكَّر أحدهم بدعم قناة "الأنيس" لم يُكلِّفْه ذلك من ثروته إلا كما ينقُصُ المِخْيَطُ إذا غُمِس في النهر. |
فضلا عن برامج دينية رائعة جدا مثل "نسيم الوصال" حيث كان ظهور الشيخ الفقيه بن حنفيَّة عابدين صاحب المؤلفات العديدة في الفقه المالكي، وبرامج أخرى مثل "مفاتيح القلوب" و"الفتاوى" و"من حكايات البوادي" و"صحة ولدك" وغيرها، حيث كانت هناك خطة واضحة لأن تكون هذه القناة إعلاما جزائريًّا بديلًا عمَّا يتلقَّاه المشاهدون من ثقافة تغريبيَّة تكاد تفكك مفهوم الأسرة والمجتمع في بلدنا، كما كانت هناك خطة لاستنهاض هِمَم الأصوات الإعلامية المغمورة للمشاركة في فتح المزيد من المنابر التصحيحية الجديدة من أجل كَبْح الانهيار الخُلُقي والانحطاط الثقافي الذي تزخَرُ به غالبُ القنوات الجزائرية الأخرى.
مضى عامان إذَن على هذه الانطلاقة البهيَّة لقناة الأنيس، حتى بدأت الأنباء تتوالى عن احتمال إغلاقها بسبب ضعف التمويل المادِّيِّ اللازم لأي قناة تلفزيونية، وكانت جهود بعض "فاعلي الخير" تحاول صدَّ هذا الانهيار المَأْسَوِيِّ للمنبر الذي طالما انتظره الجزائريُّون، ولكن تلك الجهود لم تكن كفيلةً لمقاوَمة هذا الاحتمال .. أعلنت الإدارة أن القناة تحتاج دعْما ماليًّا لتغطية تكاليف البثِّ ونشروا نداءاتهم تلك عبر صفحات القناة في مواقع التواصل الاجتماعي، كان التفاعل مع تلك المنشورات ينحصر في المشاهدين البسطاء والطبقات الاجتماعية المتوسطة والتي لا تملك سوى التعاطف المعنوي والتضامن مع هذا الحدث.
"يؤسف قناةَ الأنيس الفضائيَّةَ أن تُعْلِم مُشاهديها الكرامَ بتوقُّفها عن البثِّ وذلك لأسباب مادِّيَّة حالت دون ذلك، كما تسعى إدارة القناة جاهدةً لإيجاد بدائلَ من أجل استمرار رسالتها الهادفة".
هذه الكلمات أتخيَّلها طعناتٍ حادَّةً في قلوب المشاهدين، وهي أشبهُ بإعلان انسحاب اضطراريٍّ من معركة كان الخصمُ فيها شرسًا لا يرحم، وفعلًا كان خصوم قناة "الأنيس" يعملون ليلَ نهارَ لتشويه صورتها وإلصاق التُّهَم برسالتها حتى لا تواصل مسيرتَها وذلك من خلال إبعاد كبار أصحاب الأموال عن الاستثمار فيها، فقد تعرَّضت القناة لحملة ممنهَجة من عدة أطراف متناقضة في إيديولوجيَّاتها ولكن تجمعها مصلحة محاربة الإعلام الهادف، ويمكنني أن أذكُرَ من بين تلك الجهات:
• بعض الجهات المسؤولة في الدولة، ويتجلَّى هذا في إطلاق يد كل من يريد تعطيل مسيرة "الأنيس" وسيتضح هذا في النقاط التالية.
• قطاع الإعلام الخاص الذي لا يرغب في وجود منافسة شريفة من طرف قناة الأنيس، لأن رسالة هذا الإعلام ورسالة الأنيس متضادَّتان تماما، وغالب المنابر الإعلامية الجزائرية تتبنى نهجًا عَلمانيًّا يحاول تحرير الفرد من مرجعيَّتِهِ الإسلامية التي عمرُها 14 قرنًا، وهذا ما يُعَدُّ في صميم رسالة الأنيس العكسيَّة، حيث تسعى القناة جاهدةً لربط مجتمعنا بثوابته المعروفة والتي قامت عليها ثورة الفاتح من نوفمبر المقدَّسة سنة 1954، فالتصادُم بين التوجُّه الجزائري لقناة الأنيس وبين التوجُّه التغريبي العلماني للقنوات الأخرى حاصلٌ منذ الانطلاقة الأولى.
التيَّار الزوافي "Les Zouaves" المُعادي للعروبة والإسلام السَّمْح، وهو تيَّارٌ قديمٌ جدًّا ومعروفٌ في كونِ طلائعه الأولى هي التي انضمَّتْ وتجنَّدتْ في جيش الاحتلال الفرنسي منذ سنة 1830 لإسقاط الحكم العثماني والاستيلاء على المدن الجزائرية. |
• التيَّار المدخلي، وهذا التيّار معروفٌ بعدائه الشديد لكل المناهج الوسطيَّة، وطُرُقه في محاربتها معروفة منذ عِقْدين من الزمن سواءٌ في تشويه سمعة العلماء، حتى وصلوا للتحذير الصريح من قناة الأنيس، وعلى رأسهم مشايخ سلفية الجزائر العاصمة عبر مواقعهم ومنتدياتهم على الإنترنت أو مجلَّتهم الورقية التي تحمل عنوان "الإصلاح"، كان أحد جوانب هذا الإصلاح هو محاربة قناة الأنيس ومحاربة الفقهاء الذين يظهرون عليها ورميِهم بتُهَم تؤدي إلى تنفير الناس عنهم، ونظيرُ هذا ما نجده عند سلفية "حزب النور" المصري في عدائهم الشرس للفقهاء من جماعة الإخوان المسلمين أو من سائر الجماعات التي ترفُض الخطاب الإقصائي الاستئصالي الذي يتميَّز به هؤلاء، فبكل بساطة يتَّهم التيار المدخليُّ بعضَ الأسماء العلمية التي تظهَرُ على قناة الأنيس بأنهم إخوان مسلمون يحملون فكر الخوارج ويريدون إحداث الفوضى وتأليب الناس على "ولي الأمر"، رغم أن القناة لا تنشط في المجال السياسي تقريبًا، فضلا عن محافَظتها على مبادئ الدولة والشعب الجزائري بكل جلاء.
• التيَّار الزوافي "Les Zouaves" المُعادي للعروبة والإسلام السَّمْح، وهو تيَّارٌ قديمٌ جدًّا ومعروفٌ في كونِ طلائعه الأولى هي التي انضمَّتْ وتجنَّدتْ في جيش الاحتلال الفرنسي منذ سنة 1830 لإسقاط الحكم العثماني والاستيلاء على المدن الجزائرية، أما نشاط هذا التيَّار العنصريِّ حاليًّا -على صفحات الأنترنت- فهو يزداد بصورة رهيبة في ظِلِّ سياسة تبدو متعمَّدةً لتوريط المجتمع الجزائري في احتراب على أساس العِرق، يستند هذا التيَّار إلى خلفية تاريخية تتبنَّى العنصر الأمازيغي بمقوِّماته وتاريخه وتسعى لإنشاء تحالف ثقافي مع الفرنسيِّين واليهود والأكراد حيث يجتمع هؤلاء في معاداة العرب بسبب العِرْق والدِّين، ودون الدخول في تفاصيل هذا الحِلْف "المتوسِّطيِّ" -كما يصفُه أصحابه نسبةً لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط- فالمقصود أن التيار الزوافي لا يقبل أبدًا بمنبر تلفزيوني مثل قناة "الأنيس" ولا أن تصل رسالتها إلى بيوت الجزائريين، لأن ذلك يمثِّل تهديدًا واضحا لجهود ما يسمى بـ"إعادة الجزائر إلى أصولها الأمازيغية العريقة".
كان هذا موجَزًا لمأساةٍ ودِدتُّ أن أكتب عنها الكثيرَ، فلعل رسالتي هذه تصل إلى من يستطيع دعمَ القناة للنهوض من جديد، وأحبُّ أن أختم بتحية للقائمين عليها، وأسجِّلُ هذا البيتين الشعريِّيْن أستنهِضُ به هِمَمَ السامعين:
هذي "الأنيسُ" تغلَّقتْ أبوابُها *** لا الخيرُ فارقَها ولا أصحابُها
لـكـنَّــها تحتــاج هِـمَّـةَ سيّـِدٍ *** يُثِني على إكرامِــهِ أحـبــابُــهـا
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.