شعار قسم مدونات

ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالـ…

blogs - دبابة
الفطرةٍ الإنسانيةٍ الموجودةٍ في دواخلُنا تقوم على الشعور بالقهر والغَصّة في حال تمَّ المساسُ بما نملك، فقد نفعل أيّ شيءٍ حتى نسترده وننتقم أيضاً. ونحن كفلسطينيين نُولد وتُولد مع كلِّ طفلٍ منا غصةُ الوطنِ الضائعِ، فنحن نتوارث هذه الغصَّةَ بدمائنا بلل ونحملها على جيناتنا الوراثية. منذ لحظاتنا الأولى ومنذ أن نبصرَ الشمس المقيدة بقيودِ الاحتلالِ الغاشمِ ندركُ واقعنا المرير، ويتولد داخلنا رغبةٌ شديدةٌ في استرجاع المسلوب قسراً، فتَرضع هذه الرغبة من حليب أمهاتنا لتكبر معنا يوماً بيوم وتلازمنا في الطفولةِ والصبا والشباب والشيخوخة، وحتى نغمض أعيننا رحيلاً عن هذه الدُنيا.

وإيماناً بقضاءِ الله وقدره، وتصديقاً بوعده في بني اسرائيل وهلاكهم المحتوم فلا بد من أن يوم إعادة وطننا المفقود قادمٌ لا محال، وحتى نسترد ثمينَنا لا بدَ لنا أن نكون على أتمِّ الاستعداد، وأن لا نتغافل عن عتادِ عدوّنا وكذلك أن نجهّز عتادً جيداً نواجههم فيه امتثالا لقوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَممُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).

فحتى نسترد بلادنا فإننا بحاجة لقوةٍ كبيرةٍ، ضخمةٍ، قادرة على كسح العدوّ الغاشم، تعيد لنا مجدنا ولاسيّما بلادنا الحبيبة، بحاجة إلى المقاومة والقوة، ولكن ما هو شكل هذه المقاومة، وهذه القوة هل هي محصورة بالسلاح فحسب؟ هل هي الطعنات والعمليات الفردية؟ أم أن هذه الطعنات أصبحت في بعضِ الأحيانِ لا تتعدى ظاهرة منتشرة، ضحاياها من الصغار أكثر من الكبار.

ما نحتاجه حقاً هو أن نحررَ أنفسنَا من الجهلِ والخوفِ، أن نحرِرَها من الأفكارِ النمطية، أن نعلوَ بتفكيرنا، ونُخرج المقاومةِ من مفهومها المعتاد.

الكثيرُ منهم يظنُّ أنَّه سيغير شيء، ومنهم من ينتقمُ لواقعٍ يعايشه، ومنهم اتُّهم زوراً وبهتاناً، مهما كان السبب فماذا نفعل نحنُ لهم؟ فما أن يستشهدَ أحدهم حتى نذكرَه يوم، يومان، عام، عامان ثم يعود كلُ شيءٍ إلى ما كان عليه، نعود إلى حياتِنا، ونعود إلى أسواق "رامي ليفي" وإلى "ماميلا" حتى نشتري البضاعةَ الإسرائيلية.

والملام هنا هو نحن، نحنُ من نناصرُ هذه الطعنات، فلا نرى قلوبَ أمهاتِهم المشتعلة، ولا طفولة الضحايا المحترقة، هم مجردُ ضحايا لوطنيةٍ أصبحت زائفة، إذاً الطعنات ليست حلاً وليست قوةً يُسترد بها الوطن، فما هي إلا عمليات عشوائية انفرادية لا تغيّر ُبالكثير مع الأسف رغم انتماءِ وصدقِ وبراءةِ منفذيها. ما نحتاجُهُ هو قوةٌ أعظم، قوةٌ يدركها الاحتلال ولا ندركها نحن، فالاحتلال نجحَ في احتلالِ وطنٍ بأكمله، كيف؟ وهل كان العامل العسكري هو السببُ فقط؟

الاحتلالُ امتلكَ قوةً تخطيطيةً وتكتيكيةً رهيبةً وظّفها مع قليلٍ من الجماعاتِ وبعضِ الأسلحة، فاستطاعَ أن يحتلَ فلسطين بأكملها، والفضل يعودُ إلى قوتهم العقليّة ثم العسكريّة، إذاً ما نحتاجه نحن هو أن نحافظَ على أولئك الضحايا، ما نحتاجه حقاً هو أن نحررَ أنفسنَا من الجهلِ والخوفِ، أن نحرِرَها من الأفكارِ النمطية، أن نعلوَ بتفكيرنا، ونُخرج المقاومةِ من مفهومها المعتاد، ومن ذاك الصندوق الذي رسَمه الاحتلالُ لنا، ما نحتاجه حقًّّاً هو الدينُ والعلم، أن نتّخذَ من علْمِنا سلاحاً أنجعَ للمقاومة، أن نزرعَ في نفوسِ الأطفال الحبَّ الحقيقيّ للوطن، عندما نريهم هذا الحب و نتخلى عن الحقد اتجاه بعضنا، ونفهم ديننا الصحيح، فنقدرُ العلمَ ونتمسكُ بالدين، سيسموان بنا لمكانةٍ عُلْيا.

ومع الأسف فإن الاحتلال يدرك هذا، لذلك فإننا نرى محاولاته المستمرة لطمس الإبداع الفلسطينيّ لأنه يدرك تمامَ الإدراكِ أنَّ هذه هي القوة التي ستعيد فلسطين، فالسكاكين لا تخيفُهم قدرَ ما يخيفهم قلمنا وإبداعنا. فعندما احتُلَت فلسطين كانت الحربُ نفسيةً أكثر من كوْنها عسكرية على الرغمِ من المذابحِ والنكبات المؤلمة التي لا تُنسى، فعلى سبيل المثال الكثير من الفلاحين باعوا أراضيهم دون إدراك، خُدعوا، وسُلبَت أراضيهم. كما أنني لنْ أنسَ أبداً رواية أحداث قرية بتير، هذه الرواية التي قادتني إلى هذا الاستنتاجِ الذي أكتبه.

فبعدَ مجزرة دير ياسين انتشرَت الشائعاتُ والأخبارُ والخوفُ كذلك، ليرحلَ سكانُ المناطق المجاورة، وبتير كانت واحدةً من هذه المناطق، هربَ جلّ سكانها، إلا شخص واحد وهو الأستاذ "حسن مصطفى" وكان حاملاً لشهادة الماجستير من جامعةِ بيروت، كان مدركاً لحربِ الاحتلال النفسيّة، فقررَ البقاء وبقي معه ثلة قليلة من شبابِ القرية، استخدم دهاءَه وبراعته، فجعل للقرية الخالية معالمَ حياةٍ وكأن سكانَها موجودين.

ما إن يستشهدَ أحدهم حتى نذكرَه يوما، يومان، عام، عامان، ثم يعود كلُ شيءٍ إلى ما كان عليه، نعود إلى حياتِنا، ونعود إلى أسواق "رامي ليفي" وإلى "ماميلا" حتى نشتري البضاعةَ الإسرائيلية.

كانوا ينشرون المناشف والغسيل صباحاً ، وينيرون البيوت بالسراج ليلاً، صنع من الأخشاب ظلالا لأشخاصٍ فبدا وكأنهم كثيرون ويحملون سلاحاً، رغم أن ما كانوا يملكونه هم هو سلاحٌ واحدٌ، إلا أنه استطاع خداع العصابات الصهيونية. اقتربت العصابات وما إن شعرت بملامح الحياة بالقرية حتى خافوا ولم يتجرأوا على الدخول، رحل الجنود من المنطقة، وأسرع الأستاذ حسن في إعادةِ السكانِ للقرية وبدأ بتعليم شبابها وبناتها، رغم رفْض بعض الأهالي لتعليمِ البنات، إلا أنَّه كان مصراً على تعليمِهم، فعلَّمهم قسراً.

عادوا فعلاً وها هي اليوم قرية بتير ما زالت رمزاً للصمودِ وشوكةً في حلقِ المستعمر، فمن أراضيها تمرُُّ سكةٌ حديديةٌ تربطُ مدنَ فلسطين المحتلة، وما زال اسم " حسن مصطفى" يضجُّ حتى يومنا هذا في كلِّ القريةِ بل أيضاً في عقولِ المحتل الصهيونيّ. كان هذا مثالاً عظيماً، فالعلمِ نورٌ وتحررٌ، تحررٌ من جميعِ أشكال الظلم والخوف والاحتلال. وإذا نظرنا في سيرةِ أشرف الخلق وفي ديننا الحنيف فإننا سندرك أهميةَ العلم في الدين حتى جُعل العلمُ فريضةً على كلِّ مسلم وحتى كانت منزلةَ العلماء مقرونةً بمنزلةِ الرسل وكل هذا الاهتمام بالعلم كان ادراكاً لدوْر العلم في رفعةِ الأمم واستقرارها واستقلالها.

وأخيراً أقول، لا بد لنا أن نفهمَ كيف تكونُ القوةُ حتى نستطيعَ استغلالها جيداً، فالعلمُ قوةٌ ومقاومةٌ، والعلمُ هنا لا يقتصرُ على شهادةٍ جامعية بل هو الادراكُ والتحررُ من الجهلِ والتوسع في التفكير، ثم بعد أن نفهمَ ذلك لنا أن نوظّفََ وندمجَ قوتَنا العقليّة العلميّة مع قوة عسكريّة موحدة فنحن لا نستطيعُ أيضاً أن نتكئَ على العلم وحده فالعلمُ مرتبطُ بالقوة العسكريةِ كارتباط الروح بالجسد فالقوة العسكرية جسدٌ وروحه العقل، نحتاج كلاهما حتى نستطيع صنع مستقبل أجملَ لفلسطين. فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالعقل ثم القوة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.