شعار قسم مدونات

صراعٌ بين الذات والمجتمع (2)

blogs المجتمع

ما هي الأسبابُ الخفية وراء رغبتنا في إرضاء الناس؟ إلى أين سيذهب بنا إرضاء المجتمع في نهاية المطاف؟ كيف نتحرر من أسْرِ المجتمع لنا، ونتخذُ قرارتنا الصادقة النابعة من أنفسنا؟

إنّ هوس إرضاء الناس الذي في داخلنا كان مَعَنَا مُنذ أن كنا أطفالًا، حينما كنا نحاول أن نفعل كلّ شيء بأنفسنا، حتى تلك الأشياء التي لا نستطيع القيام بها، إذْ كنا نحاول لفت الأنظار إلينا؛ لنثبت لمن حولنا أننا موجودون، وأننا نستطيع القيام بالكثير، أي أننا نحاول أن نثبت أنفسنا أمام الآخرين، ونحاول أن نحصل على التقدير لأنفسنا، ولما نقوم به من أعمال، فذلك يُشعرنا بنشوة الإنجاز، ويُعطينا قيمةً لذواتنا ولما نفعله.

تخيّل أنّك قمت بعملٍ عظيمٍ جدًا، ولكنّك لم تُكرّم ولم يأبهْ أحدٌ بك، بل وبّخك بعض الناس على ما فعلت، كيف سيكون شعورك حينها؟ قد تبدأُ تشكّ في قيمة ما فعلت، وهل هو حقًا عظيمٌ أم لا، في الحقيقة عملك كان عظيمًا، ولكنّك أُصبت بذلك الشعور؛ لأنّك تستمدُّ قيمةَ ما تعمل ممّن حولك من أفراد المجتمع، وهذه هي مشكلة أكثر الناس، فهم لا يجدون ذواتهم إلّا في أعين الناس وألسنتهم؛ فلذلك يؤثر عليهم كلام الناس بالسلب والإيجاب.

عليك أن تسير في حياتك وفق هرم أولويات أعلاه الله وأدناه الناس، وبينهما نفسك

إنّ اتباع ما يُريده المجتمع سيجعل منك في نهاية المطاف نسخةً مكررةً من أفراد مجتمعك، وستشعر بعد مُضيّ عمرك أنّك لم تصل إلى الهدف الذي كنت تنشده وتطلبه، ولم تصبح ذاك الشخص الذي كنت تحلم به، وأضعت عمرك في أمورٍ لا تحبّها، وعشت حياةً بائسة، ولكن حينها لا ينفع النّدم، فعمرك قد ذهب ولن يرجع شيءٌ منه، وهذا كلّه بسبب تفكيرك الدائم بالمجتمع الذي حجبك عن معرفة نفسك وما الذي تريده أنت من هذه الحياة، وللأسف الشديد أنّ أكثر الناس لا يدركون هذا إلا في أواخر أعمارهم. إنّ إرضاءَ مَن حولك من الناس ليس شيءٌ سيء، ولكنّه يكون كذلك إذا كان على حساب إرضاء نفسك، ومن باب أولى إذا كان على حساب إرضاء الله-عزّ وجلّ-. 

عليك أن تسير في حياتك وفق هرم أولويات أعلاه الله وأدناه الناس، وبينهما نفسك، فعندما تريد القيام بعمل، أو اختيار شيءٍ ما، يجب أن تبدأ من أعلى هرمك-هذه فلسفة المؤمن-، حيث تبدأ بالله أولًا وهل العمل أو الخطوة التي ستخطوها يقبلها الله أم لا، ثم ننزل إلى الأولوية الثانية وهي نفسك التي بين جنبيك، فعليك أن تسبُر أغوار نفسك؛ لمعرفة ما الذي تريده بصدق، وبتجردٍ كاملٍ عن آراء الناس، وردود أفعالهم تجاهك وتجاه ما تعمل وتختار، فهذا هو السبيل إلى الوصول إلى الطمأنينة والسعادة، أن تفعل ما ترغب وتريد، وأن تحقق شغفك، ألا ترى من يعمل عملًا يُحبه ولديه شغفٌ كبيرٌ به في غاية السعادة والانسجام مع ما يعمل، فهو لا يشعر بمن حوله ولا يشعر بالوقت وهو يمضي. وكلّ الذي ذُكر مشروطٌ بغير معصية الله، فمن أطاع نفسه بعصيان الله هلكت نفسه وهلك معها.

هذه حياتك ليست لأحدٍ سِواك، خالصةً لك من دون جميع البشر، لن تعيشها إلا مرةً واحدة، فلا تكن كالدمية يُحرّكها الناس كيفما يريدون، فقط عِشها بالطريقة التي تُحب، عِشها بشغفك، عِشها كما تُرِيد أنت فقط، لترضيَ الله ثم نفسك

أمّا ما يتعلق بأسفل الهرم (الناس) فعليك أن تعلم علم اليقين أنّ إرضاء الناس غاية لا تُدرك، فليس هناك بشرٌ منذُ بدء البشرية اتفق الناس كلّهم على محبته أو بُغضه، فالرسل والأنبياء كان لهم أعداء، وحتى المجرمون كان لهم مُحبون، وعلاوةً على ذلك فرضاهم سُرعان ما يتغيّر، فمن رضيَ عنك اليوم قد يسخط عليك غدًا والعكس أيضًا، فالناس يَصْدُق عليهم قول الشافعي-رحمه الله-: (وَلَا خَيرَ فِي وُدِّ امْرِءٍ مُتَلَوِّنٍ إِذَا الرِّيحُ مَالَتْ مَالَ حَيثُ تَمِيلُ)، ولا تنسَ أنّ طاعتك لأكثر الناس سيودي بك إلى الضلال والهلاك "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"، وذلك لأنّ أكثرَ الناس يسيرون على غير هُدى "ضَلَّ مَنْ كَانَتْ العُميَانُ تَهْدِيهْ".

لا تأبهْ لمدح الناس أو ذمّهم، فكلاهما لن يفيد أو يضر، "قال رجلٌ للنبي-ﷺ-: يا رسول الله إِنَّ حَمدِي زَين وَإنَّ ذَمِّي شَين فقال له النبيُّ-ﷺ-: (ذَاكَ الله)"، أي أنّ الذي حمده زين وذمه شين هو الله، وأما باقي الناس فذمهم ومدحهم سِيّان، فعليك أن تسعى لتصل إلى درجةٍ يستوي عندك فيها المدح والذم، فحينها تكون قراراتك نابعة من نفسك وليس ممن حولك. 

وفي النهاية هذه حياتك ليست لأحدٍ سِواك، خالصةً لك من دون جميع البشر، لن تعيشها إلا مرةً واحدة، فلا تكن كالدمية يُحرّكها الناس كيفما يريدون، فقط عِشها بالطريقة التي تُحب، عِشها بشغفك، عِشها كما تُرِيد أنت فقط، لترضيَ الله ثم نفسك، ودعك من الناس ورضاهم، لا تحاول أن تكون نسخةً من أحد، أوجد الشيء الذي خُلقت لأجله "فَكُلٌ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه"، خُلقت لتكون شيئًا فريدًا، أنت شيءٌ عظيم، خُلق الكون من أجلك، وسخرت الحياة لِخدمتك (المُسَخّر له أعظم درجة من المُسَخّر)، وتذكر دائمًا: أنت نسيجُ وحدِك، أنت مختلفٌ عن الآخرين. "وَتَحْسَبُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ انْطَوَى العَالَمُ الأَكْبَرُ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.