شعار قسم مدونات

الحياد مِهنة العاجز

blogs تأمل

خُلقنا بكومة من التناقضات كما جاء على لسان إبراهيم زكريا في كتابه مُشكلة الإنسان قائلاً: "إنه الوَحيد الذي يَتَمتع بنعمة العقل ولكنه الوَحيد الذي لا يفتأ يطلب المُحال ويُنشد اللامعقول؛ إنه المخلوق الهَجين الذي يمتزج فيه النور والدم، الشُعاع والطين، الطَهارة والرجس، الأَمَل واليَأس! إنه الموجود الذي يعيش في الزَمان ولا يفتأ يحن للأبدية، لا يكُف عن التحسُرِ عَلى الماضي، والتطلع نحو المُستقبل، دون أن يكون في وسعه يوماً أن يَقنع بالحاضر!"

 

وبالنظر لأعمارنا التي يختزنها كل تناقضنا فالعُمر فعلاً أقصر من أن يُعاش رمادياً في الحياد، لا أنتَ أبيض ولستَ أسود، لست مَعهم ولا أنت مع مَن ضِدهم، لا تملُك من الرأي شيئاً ولا من الألوان درجة بل كل درجات الرمادي تختزلها داخل عقلك، من كلمات الحق لا تملك حرفاً وحتى الباطل لا تعرف له درباً. العُمر أقصر من احتمالات وسطية أو أن تعيش في مياهٍ إقليمية بلا هوية.

 

أقصر من أن ترى الحق وتعجز عن رؤيته حقاً، وأن تُبايع الباطل وتكون إمعة بلا بصيرة. هؤلاء القوم من قبيلة رمادية تعجز عن رؤية بصماتهم في أي قضية وانتشروا بكثرة حتى صار هذا الكوكب الأخضر الأزرق كوكباً رمادياً بامتياز. وإطار رماديتهم يتوسع بشكل مطاطي مُفرط حتى أنك تقف على ألوانك مُتسائلاً: " هل يُعقل أن أكون خاطئاً؟ هل عليّ أن أتبع رمادية قومي؟ "

 

تلك الحواجز الرمادية أنت من بناها وأنت المسؤول عن زيادة سماكتها أو أن تُقرر منحها بعض اللون والقرار بأن تكون موجوداً، فالرمادية ستجعلك سراباً شفافاً للدرجة التي سيصعب بعدها رؤيتك بين الواقع والوجود القريب بيننا

أن تكون رمادي الفكرِ لا مبالٍ لكل ما يحدث من دمار على كوكبك، أو اضطهاد لعرقك، أو جبروت يُمارس ضد أرضك لا يصفك أبداً بالإيجابية والسلمية وابتعادك عن سلبية الواقع. بل إنه لمن الضروري أن تعيش سلبية الواقع لتخلق معنا إيجابية تنفعنا جميعاً! فما الفائدة من هجر سلبية الواقع والعيش في جُبن الإيجابية السرابية؟

 

"ما ضاع حقٌ وراءه مُطالب"، والحقيقة أن الحق هو حق يتشارك به الجميع، فواجب على الجميع أن يطالب بالحق ولن تَقتَصر المُطالبة على فئة مُعينة دون أُخرى. لهذا تقف الرمادية في وجه الجميع وترتفع من درجة حماية جهل صاحبها للدرجة التي تُصبح بها حاجز يقف أمام أصحاب الحق، فحين يطالب بالحق عشرة أشخاص من أصل مئة رماديين فإن الرمادية تنتصر على الحق ويُظلم أضعاف العَشرة والكثير..

 

صَدَق الفلاسفة حينَ قالوا: " إن الإنسان (مَشروع وجود) أكثر مما هو (وجود) " فأنت أيها الإنسان مُضطر أيّما اضطرار إلى إعادة اكتشاف نفسك وبذل الجُهد تجاه ذاتك والعمل على مشروع وجودك لتُثبت أنك موجود.

 

إنّ الإيمان بمدى أهمية عودتك إلى ذاتك وفطرتك التي خُلقت عليها وجَمَعَت كل تناقضات الشعور والألوان لَهُوَ أكبر تحدّ قد تُجابهه. لا سيما إن كان بناء كُل تلك الحواجز السرابية الرمادية قد امتلأ بعلامات الاستفهام والتعجب، حتى أنت نفسك ستتعجب من وجود بعض الحواجز السرابية التي ستتلاشى كُلما اقتربت منها. وكُلما ازداد إيمانك بأهمية عودتك لذاتك ستكتشف بأنك كُنت تود برماديتك أن تكون مُحايداً وترى أنك ظالم، وكُنتَ تود أن تكون عاقلاً وترى أنك جاهل، وكُنتَ تود أن تكون موضع حب وتقدير من الناس إلا أن أخطاء حيادك لم تجلب لك سوى كراهيتهم واحتقارهم. 

 

تلك الحواجز الرمادية أنت من بناها وأنت المسؤول عن زيادة سماكتها أو أن تُقرر منحها بعض اللون والقرار بأن تكون موجوداً، فالرمادية ستجعلك سراباً شفافاً للدرجة التي سيصعب بعدها رؤيتك بين الواقع والوجود القريب بيننا.. رماديتك قد تظلم الكثير، فما الذي يُجبرك على حمل كل هذا الوِزر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.