شعار قسم مدونات

الوطن.. الوطنية.. والمواطن

blogs مشهد من فوق مبنى

ما هو الوطن؟ أهو حفنة تراب، قطعة قماش، أصوات (أغاني وأهازيج وأناشيد) تعلن عن الانتماء أو العكس، أم كومة أوراق محدودة الأجل؟ وهل هو قابل للتجسيد والتجسيم؟

لا هذا أو ذاك لقد كتب الفلاسفة والشعراء عنه تحت عناوين الهويات وحب الأوطان ولكن لسخرية القدر أن كل واحد منهم يدفعه لمسايرة أيديولوجيته وأحاسيسه، قد يصطف داخل الضمير مع المعتقدات الأخرى كالدينية والفكرية وليس التشبت بها بالضرورة؛ فالملاحدة إخوان المؤمنين والآذريين في علاقتهم بالوطن، لهذا الأخير مقياس شبيه بتلك المقاييس التي تخضع له الروحانيات والمشاعر الإنسانية، مقاييس تتفق على المبادئ الكبرى وتختلف عن تفاصيل دقيقة، وسواء كانت كبيرة أو صغيرة لا أحد منا يعلم سوى بعض الجزئيات بينما نترك الباقي للمجهول، هل كان بالإمكان اختبار الوطنية قبل اليوم؟.

 

ربما يكون الجواب نعم ويحتمل الخطأ، نعم حينما تتعرض قضايا الأمم لتهديدات كهجوم الأعداء أو دفع الضرائب أو الانتخابات.. فيخرج الناس للقيام بواجباتهم الوطنية ومع ذلك يحتمل جزء من الخطأ فهل يقاس هكذا وفقط؟، قد يكون العديد ممن يذهبون للقتال لأجل المال أو خوفا على حمل الهجوم لنتائج كارثية على بيته الدافع لسلوكه، وينتخب لأن البرنامج الانتخابي للآخر يلائم توجهاته، ميوله، أفكاره..

نجد أن للراسخون في العلم تأويل فسيفسائي للوطنية يقوم إما على هدم الحدود الجغرافية ما يعني غياب صفة المواطنة المجالية ويستبدلها بالعالمية بلغتهم أو الإنسانية بلغة كانط

كثيرا ما تبرز أصوات وأفعال تدافع أو تدين.. الوطن كلما انفجرت قضية اجتماعية أو سياسية هدفها تخوين الآخر، أو الاحتفاء به ووضعه فوق الاكتاف سواء أكان سياسيا أو مثقفا أو رياضيا.. قد نقيس الوطنية هنا في لحظة عابرة قبل أن تتبدد ومع ذلك فليست تلك اللحظة كلها وطنية، قد تختلط فيها بنشوة الانتصار أو العنصرية (تجاه الآخر) أو الولاء وحتى أحاسيس بتحقيق مصالح خاصة كالذي يتظاهر فقط مقابل مال أخذه من سيده، هكذا إذن يرتبط بالمشاعر والمبادئ الكبرى كالحب والانحياز، الكره، الإيمان، العطاء..

ولو أخذنا الموضوع من زاوية دينية إسلامية لتبين اختلاف في الآراء والتفسيرات حول الوطن والوطنية يكفي أن نسائل القرآن عن تعريفاته لهما، ليتبين غياب آيات قطعية الدلالة، وهنا نجد أن للراسخون في العلم تأويل فسيفسائي يقوم إما على هدم الحدود الجغرافية ما يعني غياب صفة المواطنة المجالية ويستبدلها بالعالمية بلغتهم أو الإنسانية بلغة كانط، منهم من أشار له بمكة كونها أم القرى وقبلة العالم ولا يخفى علينا التوجه السياسي لهؤلاء الذين نجدهم يدفعون عواصم الدولة الإسلامية حسب انتماءاتهم من مكة للبصرة لتركيا، ومنهم من يؤجلها لما وراء الموت باعتبار الجنة السكن الأول لآدم والمكان الذي إليه يرجع المسلم بعد الموت، مع العلم أن هؤلاء يضعفون حديث "حب الأوطان من الإيمان" إذ قال الألباني: "موضوع، ومعناه غير مستقيم إذ أن حب الوطن كحب النفس والمال ونحوه، كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه ولا هو من لوازم الإيمان " وهذا اتجاه السلفية التقليدية.

في مسار آخر نجد رواية لحديث الرسول حول مكة "ما أطيبَك من بلدٍ وما أحبَّك إليَّ ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك.." يجادل طروحات هؤلاء بل وأكد القرآن ذلك لمنع المسلمين من مجتمعات الاستبداد والطغيان الذي ينهك الإنسان (..قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) ولدفع الناس لاحتواء الاستبداد وليس شرعنته باسم الإسلام كما يراه البعض.

أما في لسان ابن منظور فالوطن هو "المنزل الذي تقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله يقال أوطن فلان أرض كذا وكذا اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيه" وهو تعريف كاف لانتفاء الوطنية عمن يترك محل ولادته كالمهاجرين والرحل الذين اختاروا القيام في أماكن جديدة.

الشعور بالانتماء للوطن ينفرد بثقافة وتاريخ مشترك يمنح صاحبه الشعور بالانتماء له عبر روابط متينة تتجلى في التأثر بالوقائع التي تحدث ضمنه

وفي اللغات اللاتينية نجد قواميس تنبض بالحياة السياسية نتيجة التطورات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها أوربا منذ القرن الخامس عشر، لا نبالغ إذا قلنا أن منه اشتق القاموس السياسي العربي فعلى سبيل المثال مفهوم المواطن والمواطنة وأركان الدولة وغيرها من المفاهيم السياسية الحديثة أخذت منها وبقيت سجينة المعاني الأصلية، فالوطنية في قاموس أكسفورد تعني حالة الانتماء لأمة معينة Nationality is belonging to particular nation وهو نفس التعريف السياسي المتداول في الساحة الأكاديمية العربية. 

 

أما التعريف السياسي للوطنية يتمثل في الإحساس بالانتماء للأرض والمجتمع الذي نعيش فيه، والدفاع عن أمنه، وتكتسب بالتربية والتوعية في مقابل التوزيع العادل للثروات والحفاظ عليها وضمان الحريات والحقوق عبر تطبيق القانون وهي الشروط التي يستلزمها روسو وجون لوك ومونتسكيو بالتوالي لاستكمال أسس العقد لقيام وعاء الوطنية، وغالبا ما تقتصر القيمة الدنيا لقيام هذا الوعاء على المشاعر السياسية بتعبير هيجل الذي يعتبر تضحية المرء لصالح الدولة أعظم اختبار للوطنية.

وهذا ما يدفعنا لإعادة نفس السؤال الذي أرقني عن نوع العلاقة بين الأفراد والدولة كمفهوم قانوني سياسي إن لم يكن عقد اجتماعي مبنى على التراضي والتنازل في سبيل العيش المشترك وتفويض السلطة لمؤسسات تسهر على راحة المواطنين، أما تركيز السلطة في دائرة صغيرة تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة مستغلة نفوذها في تصغير واحتقار الألفاظ والنعوت بين الوطني والخائن فلا نجد لها تغريدات خارج فضاء الاستبداد.

إذا تأملنا في الأسطر الماضية كان لزاما علينا التوجه نحو إبراز معالم الوطنية لتمييزها عما يمكنها من تضبيبه فهي:

أولا: نتيجة لتواجد الوطن الذي يستلزم بدوره قيام شعب فوق أرض معينة.

 

ثانيا: الشعور بالانتماء لوطن ينفرد بثقافة وتاريخ مشترك يمنح صاحبه الشعور بالانتماء له عبر روابط متينة تتجلى في التأثر بالوقائع التي تحدث ضمنه، فكثيرا ما يتخيله البعض ككيس من العملات النقدية ما أن تتدهور الأحوال الاقتصادية حتى يكفر به.

 

ثالثا: في كون الوطنية تكتسب بالتربية حيث تتحمل الأنظمة الاجتماعية والثقافية والسياسية مسؤولية تنشئته تنشئة وطنية ولا جناح في تعدد الانتماءات لأمكنة مختلفة.

 

وجب التفريق بين الوطن والحاكم وهدم العلاقة السببية بين الطاعة والتسبيح لهذا الأخير كمعيار الوطنية، فالحاكم ما هو إلا شخص فوضناه سلطتنا (نحن الشعب) للحفاظ على التوازن بين أمن المجتمع والحريات الفردية

رابعا: يستلزم تحمل الواجبات التمتع بالحقوق فلا يعقل أن تؤدى الضرائب والتجنيد والحب للوطن وتلقى الفوضى والاستبداد والكره فطالما يصعب تغيير ذلك النظام يبقى الامتناع عن أداء المسؤوليات الحل الأمثل للعصيان المدني في مواجهة التسلط وإلا بقي الوطن وهم كبير عندما نقابله بالحب والعطاء، ويقابلنا بالقمع والتشرد كما عبر عنه عبد الرحمان منيف.

 

خامسا: أن الوطنية ليست أداة ائتمانية لتحقيق الأغراض الخصوصية فحمل العلم وإنشاد النشيد "الوطنيين" ماهي إلا رموز يمتاز بها الوطن في مواجهة/منافسة/تعاون.. خارجيا ولا أرى للصور معنى خارج النضال/التغيير الرمزي التاريخي فصورة تشي جيفارا رمز للنضال ضد الطغيان، .. أما التأشير بها في سبيل أغراض خاصة هو تغريد خارج معنى النضال نحو التزلف والتملق، وإلا لِما وجدت المؤسسات إن عجزت عن تحقيق أهدافها كالأمنية والقضائية..، ولا يخفى أن هذا التصرف ما هو إلا نفاق وطني يتميز ظاهريا بالوطنية على باقي الوطنيين الذين يشاركونه هموم الوطن.

سادسا: يجب التفريق بين الوطن والحاكم وهدم العلاقة السببية بين الطاعة والتسبيح لهذا الأخير كمعيار الوطنية، فالحاكم ما هو إلا شخص فوضناه سلطتنا (نحن الشعب) للحفاظ على التوازن بين أمن المجتمع والحريات الفردية، وهكذا فالوطنية ليست رداء أو خزان للحاكم يرتوي منه بحاجاته الغريزية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.