شعار قسم مدونات

الشَّمسُ لَا تَغِيِب، إلّا عِندَمَا نَقِفٌ لِتَأمُّلِهَا

blogs مغيب الشمس

يا صديقي: نُفوسنا تَختَلِف وتَمرض، وعَلاقاتنا تَتَشَعَّبُ وتُرهِق، وضمائرنا تُأَنِّبُ وتُتعِب؛ الفضول السلبي داءٌ لا شفاء له، انشغالنا بما ليس لنا قد يدفع بالإنسان لأكثر الأعمال قبحاً لإرضاء فُضوله، ربَّما ينشرح قلبه مرة، لكنَّه سيضيق عِدَّة مرَّات، وقد يكون سبب إِلحادنا هو فُضُولنا الخبيث هذا، نتيجة خَوضِنَا متاهات وتخرُّصات لا نهاية لها، وهناك أيضاً الفضول الحميد إذا ما وُجِّه في الطريق الصحيح، ولكنَّ نوعاً آخر من الفضول حَسَنُ المَظهَرِ سيِّءَ الخُلُق، بدايته حسنة ونهايته وخيمة، يسبِّبُ لنا الكثيرَ من المتاعبِ والآلامِ وَهَجَمات الشعور بالذنب، إنَّه فُضولُنَا في مَن نُحِب.

أَعمالنا الطيبة، دَوافعنا الخيّرَة، نَوايانا الحسنة، قُلوبُنا البيضاء، قد تكون سبباً للكثير من الخيبات التي تَعتَرِينا، هو ضربٌ من الفضول الذي لا يمكن إنكاره، كل فرد منا لديه الرغبة بمعرفة التفاصيل، لديه الرغبةُ بالتعمق بأشياء إن تُبد له تسُؤْهُ لا مَحاله، لَيست تَفاصيلَ أيَ شخص كَان، ولن نتعمَّق في حياةِ أيِّ شخص لا على التَّعيين، هناك أشخاص مَميزون يتركون بصماتهم داخل قلوبنا!، مَعركتنا مع أنفسنا قاسية كقسوةِ الجلاد يا صديقي، النفس تَبقى تطلُب المزيد حتى توقعنا في فَخَّها المُظلم دون أن نَشعر، والأسوأُ من ذلك هو أن تُترَكَ بصماتهم داخِلً قلوبِنَا بعد أن غُمِّست في الطِّين.!!

الابتلاء صعبٌ يا صَديقي، تعلَّم الصَّبرَ وتعلَّم ألا تُحَدِّقَ في الآخرين، لا تُبصر أحداً من بعيد قبل وصوله، اتركه يقترب ودعه يمر بسلام كي لا تخسر قلبك، واعلم أن الحُبَّ الذي كان يجمعنا، أصبح اليوم يُفَرِّقُنا

احذَر؛ ستبدأ علاقتك معهم بسلام، كأيِّ علاقة ظاهرية كانت، يَقوى هذه الوِداد غداً بِوجودِ عوامِلَ مُحَفِّزَةٍ للتَفاعل، يُعجبكَ قولهم، تَصرُّفاتهم، وربما هيئتُهم، ستعشقُ شيئاً مميزاً فيهم، ها هو الحب يَنشرُ عبيره في كل مكان، وربما يقرع القلب طبوله، وفجأةً من غير سابق إنذار تفقدُهُم، بعدما تعلَّقت بِقطَعةٍ منهُم! أصبحتْ القاعدةُ كالتَّالي: كُلَّما أحببتهم أكثر كلما فقدتهم بشكل أسرع، كل من تحبه بصدق ستفقده عاجلاً أم آجلاً، وبالطبع ليس من الضروري أن يكون المقصود من الفقد موتاً، ولكنَّ الأسباب تعددت والفّقْدُ واحد، لعلَّ قلوبنا تفتقدُهم بعدما ماتوا فيها وجُعِلَت ذكراهًم في وُجوهِنا، أو لَعَلَّ أحلامَنَا تَفتقدُهم بعدما كانوا جُزءاً منها، لعلَّ الأيام الغريبة غيَّبتهم عنا، أو لعلَّهُم أصبحوا معنا وأمسّوْا خلف القضبان في سجن مُظلم، فنحنُ كلَّ يومٍ نُوَدِّعُ حبيباً، ثم أصبحنا نشتاق شوق الطفل لأُمِّه؛ فالطفل الصغير يشتاق لأمه حتى وهي بجانبِه!

 

الابتلاء صعبٌ يا صَديقي، تعلَّم الصَّبرَ وتعلَّم ألا تُحَدِّقَ في الآخرين، لا تُبصر أحداً من بعيد قبل وصوله، اتركه يقترب ودعه يمر بسلام كي لا تخسر قلبك، واعلم أن الحُبَّ الذي كان يجمعنا، أصبح اليوم يُفَرِّقُنا. الجميع يرحلون من حولنا، لا نكاد نسعد بشيء حقاً حتى يختفي، على الأقل بمفهومنا للسعاة المتمثلة في بعض الأشخاص، أشخاص مثّلوا دور الدَّولَةِ الاستعمارية؛ لقد قاموا باستعمارِ القلبِ والاستيطان فيه حتى غدت حياة القلب قائمة بهم، فأصبحنا نستصرخ مطالبين القلب أن يَستَقِلّ، الله يبتلينا بهم ويعاقبنا بهم ويَنكُبنا بهم، كما يُسعدنا بهم، كأي سعادة كانت، كأي نعمة، من الممكن أن تتحول إلى نقمةٍ؛ إن استُغِلّت بشكل خاطئ، أو أرادَ اللَّهُ أن يُريَ بعض آياته فيها، "فَصَبْرٌ جَمِيِلْ"،"وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ"،! فَأَنصَحٌكَ ألّا تُمعِنَ النَّظرَ كثيراً في حب من تُحب؛ فالشمس لا تغيب إلّا عندما نقف ونبدأُ بِتَأمُّلِها.

هل جربت أن تُحضِرَ أحداً تُحبُّه من مُخيِّلتك وتضعهُ نُصبَ عينيك؟ ثم تباشر بالتحديق في وجهه، كُلَّمَا حدَّقتَ فِي جُزءٍ من وجهه جيداً وجدته يختفي، وهكذا حتى يَختفيَ من أمامكَ بعدما كان يَتَّضِحُ قبل قَلِيل!، أو لربَّما دفعك فضولك للعبث بأحد الآلات أكثر وأكثر حتى عَطُبَت وأصبحتَ تتندم لفعلتك، وهكذا تسير الأمور معنا، لا يجب علينا التَّحديقُ ملياً، هذا سوف يُرهق عُقولنا قبل أَعيُنِنَا، وسَيُزهِقُ روح قلوبنا قبل أيِّ شيءٍ آخر.

كن مستعداً ولا تتفاجئ إذا تغيَّر عليكَ أحدٌ كنتَ تَحسبه مُقرَّباً، ولا تقلق فالحَجَجُ كثيرةٌ إن أردتَ سَماعَها، لا تكن مِثلَهُم، فكِّر بنفسِك مَلِيَّاً قبل أن تفكر بالآخرين، درّب عقلك على امتلاك نفسهِ لا امتلاك غيره، كن وفياً لنفسك قبل غيرك

حقيقةً، نحن نعلم أنَّنَا نُحِبُّهُم، ولكن لا نعلم أننا أفرطنا في حبهم إلا حين نفقدهم، لا نعلم أنَّنا نتناولُ جرعات زائدة، كمريض يريد أن يبرأَ بسرعة، فتناول جُلَّ الدواءِ دفعةً واحده! فَلَقِي حَتْفَه، نسعى للمزيد من الحب تحسباً لِعدم فُقدانهم، آملين أن يَبقَوْا معنا إلى الأبد، مُتَكِّبرينَ على أنفسنا، مُتذلِّلِين لِقُلوبِنا، مُتَوَهِّمينَ لِوُجودهم، نغلِّفُ أنفسنا بِطاقةٍ خفيةٍ تَمنَحُنا جرعاتٍ مثبطة لِما يُحيط بنا، ونُحيطُ أنفُسَنا بشيءٍ منَ الكِتمان، ولكنْ لا شيءَ يدوم على حاله، أحياءً كانوا أم حتى جمادات، حقيقةً، كُنتَ تسير بالاتجاه الخاطئ يا صديقي، خَدَعَكَ قلبُكَ وَزيَّفت طَريقَكَ الأيَّام، لَم تكنْ مِلكَ نفسك؛ فَقد كُنت مِلك قَلبك وحُنُوِّه لكَ لم يكن حَقيقياً.

عِظَةٌ أخيرة، لِي ولك، عليك بأتمِّ الجاهزيةِ دائماً لأَيِّ طارئ قد يطرُئ، عليك بوضع جميع الحسابات في عقلك فقد تلزمك فيما بعد، التزم بأخذ الجرعة المحددة من الحُب، ابدأ من الآن بِتمرينِ نفسك على عدم الانبهار والتفاجئ، حتى اللَّحظي منه؛ فعقولنا تأخذ حيزاً كبيراً لهذه الملمَّات، كُن مستعداً ولا تتفاجئ إذا تغيَّر عليكَ أحدٌ كنتَ تَحسبه مُقرَّباً، ولا تقلق فالحَجَجُ كثيرةٌ إن أردتَ سَماعَها، لا تكن مِثلَهُم، فكِّر بنفسِك مَلِيَّاً قبل أن تفكر بالآخرين، درّب عقلك على امتلاك نفسهِ لا امتلاك غيره، كن وفياً لنفسك قبل غيرك، اعتذر لِنفسكَ عندما تُخطِئ؛ فهي تسمعك وتقبل الاعتذار، وهي الأحقُّ بالاعتذار أولاً، اشتغل بنفسكَ قبل غيركَ، أعطِ الآخرين بعض حَفَاوَتِكَ فهذا مفروضٌ عليك، لكن لا تدع نفسك مُشوشةً تتخبط في تيه لم يُفرض عليها، أدركها أوَّلاً، جاهد قَلبَكَ حقَّ جهاده إن طَغى، اعتنِ به يا صديقي فإنَّه موطن كل شيء، "لَولآ أَنْ صَبَرْنَا" لضاع منّا كُلُّ شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.