شعار قسم مدونات

الدين بين جدلية الخير المطلق والشر الدائم

blogs - قرآن
تتنازع نظرة البشر إلى الدين فرضيتان شائعتان يغلب عليهما السطحية والتعميم، الأولى تعتبر الدين بالضرورة وبحكم التعريف خيراً، والثانية تعتبر الدين شراً على الدوام. وفي ضوء الافتراض الأول يميل الناس إلى إعفاء الدين من اللوم على أي شر يقع، مثل الحروب، والعنصرية والإرهاب وغيرها. وقد اعتاد صاحب هذا الافتراض على القول إن كل الأديان هي "أديان سلام" وأن الدين ما هو إلا ضحية استغلال الأشرار، ولذلك تجدهم على الدوام يخبرونك بأن الدولة الفلانية لا تمثل الدين، وأن ذلك الحزب السياسي لا يشكل حقيقة الدين، ودائماً ما يزعمون أن الدين قد سُرق من هذا التنظيم أو تم استغلاله من ذلك السياسي.

وعلى الجهة الثانية، نرى أصحاب الفرضية الثانية الذين يلصقون في الدين كل أو معظم الشر الذي يقع في العالم، مستشهدين بالتاريخ الأسود للحروب الدينية، والجرائم التي ترتكبها دول وجماعات باسم الدين، مؤكدين أن هذه الجماعات التي يزعم المؤمنون أنها لا تمثل الدين تستقي الشر من نصوص هذه الأديان، والتي عادة ما يحاول المؤمن الطيب تجاهلها أو إيجاد تبريرات غير منطقية لوجودها.

الدفاع الدائم والشهير للمؤمنين بأن هذه "الدولة" لا تمثل الدين، وأن تلك الحركة لا علاقة لها بالدين، أصبح مثالاً للتندر والسخرية بالنسبة للقائلين بالفرضية الثانية، فتطبيق هذه النظرية على الأرض الواقع، لا يتيح لنا نموذجاً واحداً نستطيع أن نتخذه كمقياس من أجل معرفة الحقيقة.

وبين هاتين النظريتين ينقسم معظم البشر، فالمؤمنون وأصحاب الفرضية الأولى لا يتقبلون فكرة أن الدين قد يجلب شراً، فالدين بحسب منطقهم من الله، والشر لا يمكن أن يُنسب لله، أما بالنسبة للملحدين وأصحاب الفرضية الثانية، فهم يجدون أن الدين لم يجلب لهذا العالم سوى التخلف العلم والفكري، وأنه قد حان الوقت لنواجه المشكلة من جذورها الحقيقية.

ويبدو أن التنازع بين الاتجاهين رغم عموميتهم وقصورهم عن فهم الواقع الديني سيبقى لمدة طويلة، فأهل السياسة على شتى مشاربهم واختلافاتهم يخشون الاقتراب من المارد الديني، ويحاولون التحلي بما يمكن وصفه بـ "اللباقة السياسية"، ويتفقون – إعلامياً على الأقل- على أن الدين هو خير بالضرورة وأنه لا ينبغي أن يُنتقد الدين أو يُواجه في المواقف التي تجمع بينه وبين السياسة.

وهذه اللباقة التي قد يخترقها سياسي هنا أو متطرف هناك، أصبحت من قبيل "العرف العام"، الذي تم إلزام الجميع به، فحتى عندما تكون الحرب على أصحاب دين معين أو على الدين ذاته، تجد الجميع يؤكد أن الحرب هي على فئة متطرفة لا تمثل ذلك الدين. وقد أدى هذا العرف إلى تكريس أطروحة أن الأديان في جوهرها مسالمة وتحمل الخير للناس، بينما الكيانات السياسية وحدها المتسمة بالعنف والميل للحروب.

ومن المؤكد أن نظرة بسيطة على التاريخ والواقع تكشف ثغرات كبيرة في هذه الأطروحة، فالتاريخ يقول إن الكثير من الأديان أدت فعلاً إلى الحروب والمجازر، وبغض النظر عن الجهة التي كانت تمارس هذا الفعل، فإن الدين كان المحرك الأساسي لهذه العملية، وأتباع الدين الذين ينكرون في العادة مثل هذه الاتهامات هم الفاعل الحقيقي لهذه الجرائم. كما أن صورة العنف الديني التي رأيناها، تدفع للتشكك بافتراض أن كل الأديان هي أديان سلام ومحبة، فلماذا يجب علينا أن نأخذ دائماً الصورة المشرقة للدين ونتبنى النموذج الجميل. لماذا لا نتبنى نموذجاً آخر للدين يتصف بالدنيوية، ويصطبغ بالسياسة والعنف، ويفترض أولوية "التبشير المسلح" أو "الدعوة بالسلاح"؟!، هذا من جهة.

أما من الجهة الأخرى، فإن أغلب "الأديان" الموجود اليوم تتداخل فيها الأمور السياسية بالأمور الروحانية بشكل واضح، حتى تلك الأديان أو المذاهب التي يقتصر الحديث فيها عن الأمور الروحانية وتزعم أنها لا تتدخل بالسياسية وتظهر وكأنها منعزلة عن السياسة أو معتزلة له، تبدو في كثير من الأحيان كحركات سياسية تنتظر الوقت المناسب لظهورها، ويبدو أن نار السياسة تكمن تحت رمادها إن جاز التعبير.

كثيراً ما رأينا السياسة تكون ضحية للدين أو الأفكار الدينية. غير أن هذه الإشكاليات على كثرتها، لا تمنعنا من الإقرار أن الدين هو خير مطلق، إذا عرفناه بأنه مجموعة من العبادات والتعاليم الأخلاقية، ولكن الواقع يقول إن هذا التعريف للدين يبقى نظرياً.

وعلاوة على كل هذا، فإن الدفاع الدائم والشهير للمؤمنين بأن هذه "الدولة" لا تمثل الدين، وأن تلك الحركة لا علاقة لها بالدين، أصبح مثالاً للتندر والسخرية بالنسبة للقائلين بالفرضية الثانية، فتطبيق هذه النظرية على الأرض الواقع، لا يتيح لنا نموذجاً واحداً نستطيع أن نتخذه كمقياس من أجل معرفة الحقيقة.
ورغم هذه الحقائق، فإن الغالبية العظمى تؤمن أن المشكلة الأساسية لا تكمن في الدين بل في البشر، فالدين هو مجرد معتقد غيبي لا علاقة له بما يفعله الآخرون باسمه، وهو ضحية استغلال السياسة والسياسيين، ولو قمنا بفصل السلطة والحركات السياسية عن الدين، فإن ما سينتج لنا هي مجموعة من المعتقدات الغيبية والتعليمات الأخلاقية التي تدعو إلى الخير وتنبذ الشر.

ولكن المشكلة أن أصحاب هذه النظرة ينظرون للدين بوصفه شيئاً سلبياً لا يتفاعل مع الأحداث، إذ يصبح مجرد "أداة" مثل المطرقة التي يمكن خفضها ورفعها حسب رغبتنا، والقول بهذا الأمر لا يحل المشكلة بل يعقدها، حيث لا يرى هؤلاء الدين سوى شيء تستخدمه السياسة، ويحول الدين إلى مجرد أداة طيعة بيد الآخرين.

والواقع أن الدين ليس مجرد أداة بيد السياسة، بل هو مكون رئيس فيها، ويتفاعل معها مثل غيره من المكونات، يؤثر فيها مرة، ويتأثر فيها مرات، ولذلك فإن الزعم بأن الدين ضحية للسياسة، يحتاج لكثير من النظر، فكثيراً ما رأينا السياسة تكون ضحية للدين أو الأفكار الدينية. غير أن هذه الإشكاليات على كثرتها، لا تمنعنا من الإقرار أن الدين هو خير مطلق، إذا عرفناه بأنه مجموعة من العبادات والتعاليم الأخلاقية، ولكن الواقع يقول إن هذا التعريف للدين يبقى نظرياً، فأغلب الجماعات الدينية لا تنظر إلى الدين هذه النظرة المجردة، وتسمح لدينها أن يتدخل في كل شيء، وهذا الواقع هو ما يجعل المعضلة مستمرة بل وربما دائمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.