شعار قسم مدونات

مفكرة أحد مواليد 1977.. جيل ظن أنه نضج سريعا

مدونات - كاتب

ليس هذا المقال تأصيلا فكريا ولا تدوينا منهجيا، ولا تقعيدا عقديا، بل إنها ذاكرة الأيام، وعاصفة الأوهام، إنها صورة من صور الحياة التي نراجع نظرتنا إليها عندما نبتعد عنها، فنعيد صياغة آرائنا وتصوراتنا، ونغير زوايا التقييم بحسب التجارب والنتائج. كثيرا ما ننظر نحن الذين نستقبل سن الأربعين إلى الجيل الصاعد أمامنا على أنه جيل لم يكبر، ولا يريد أن يكبر، لأن اهتماماته تبدو لنا مغرقة في الصبيانية، كأننا نجعل من مثالنا قدوة لغيرنا لابد أن يتبعوا خط سيره إلى نهاياته، مع أن تجربتنا تستدعي الكثير من التأمل على ضوء ما كان يجب أن يكون لا بناء على ما كان، لكي تصبح التجارب مفيدة، ويتحول التأريخ إلى صور نأخذ منها العبرة..

فهل الجيل الذي نراه أمامنا مصرا على أن يدفع بالطفولة إلى ما بعد سنها هو الجيل الذي يمثل المشكلة، أم انه جيلنا الذي أصر على أن لا يعيش الطفولة عندما وجد نفسه ينخرط باكرا في الصراعات السياسية والخلافات المذهبية والاصطفاف الحزبي، ويبدع في رسم صور قد تبدو غريبة جدا لما يقرأها من جيل آخر، أم أنهما جيلان يمثلان صورا مختلفة من صور التيه؟!!

عندما كان عمرنا 12-13 سنة جاءت التعددية السياسية، فوجدنا أنفسنا في خضم أحداثها، فعرفنا باكرا قضايا الإسلام والعلمانية، وتناقشنا في طبيعة الدولة، وسمعنا آراء المعارضة والسلطة.

في سن الحادية عشرة ما علاقة جيلنا بأحداث 5 أكتوبر 1988 بالجزائر، لماذا انخرطنا فيها وتحمسنا لها، لماذا خرجنا يومها من مدرستنا لنسهم في إيقاف حركة المرور، وننضم للجمع الذي أوقف تلك الشاحنات التي كانت تنقل الحجر لتشييد ميناء مدينة جيجل الساحرة، لماذا أصررنا يومها على السائق أن يفرغ حمولته وسط الطريق، ودعمنا " الكبار" يومها على إنزاله من شاحنته ومصدر رزقه ليتولوا القيام بالمهمة التي رفض السائق القيام بها، فهل كنا نعي هدف المظاهرات وخلفية الصراعات، أم كننا نساير رغبة في التمرد على مفهوم الدولة، أم كنا أداة لتسوية خلافات كان عقلنا قاصرا عن استيعابها، وهل كانت الهتافات القاسية ضد رئيس صرنا نعده اليوم أفضل حاكم للجزائر المستقلة شكلا من "الغوغائية" أم تنفيسا عن الكبت السياسي، أم مجرد تقليد لجيل أكبر منا ظن نفسه ناضجا سياسيا وهو يمارس "التصادم" باسم " التدافع"!!

في هذه السنة ما علاقتنا برئيس البلدية حتى نصطف مع الهاتفين بإسقاطه، منادين بشعار: "نحيونا بوبرية خلانا في الميزيرية/ إعزلوا صاحب الطاقية لأنه جعلنا في فقر مفقع"، متابعين لمن نصب نفسه زعيما ونحن لا نعرفه، بل فقط فهمنا أنه خصم للسلطة فصرنا نرى أنه على الحق، والآن أتذكر حجم الإشاعات التي روجها ذلك الثوري المزعوم، والتي أدركت لاحقا أنها لم تكن سوى تصفية حسابات مع "عمي مسعود رحمه الله" الذي كان من المجاهدين النزهاء، والذي عرفت متأخرا أنه بقدر ما كان أميا فقد كان طيبا ونزيها، وصل لمنصبه بالشرعية الثورية وفشل فيه لأن كل السياسات كانت فاشلة يومها.

أراجع نفسي لأقول ما علاقتنا يومها بالأحداث، وكيف انخرطنا في هذا السن فيها، وهل يمكن لأبناء جيل اليوم أن يفقهوا ما تنشره الأخبار عن الأزمات العربية في مختلف المناطق، أم أنهم لا يعرفون سوى الألعاب على الحاسوب والألواح الرقمية، لأنه فرق شاسع بين جيل وجيل.

عندما كان عمرنا 12-13 سنة جاءت التعددية السياسية، فوجدنا أنفسنا في خضم أحداثها، فعرفنا باكرا قضايا الإسلام والعلمانية، وتناقشنا في طبيعة الدولة، وسمعنا آراء المعارضة والسلطة، وسهرنا مع الخطابات الحماسية، وتنازعنا حول أولوية المترشحين، وعادينا بعضنا بعضا، واتهم البعض غيره بالخيانة أو الضلال، ومشينا في المسيرات، وهتفنا بالشعارات، واعتصمنا في الساحات، وغبنا عن الآباء والأمهات، مع أننا لم نكن قادرين على التمييز بين الأفكار والأشخاص، ولا بين الأشخاص والأحزاب، وكانت اللغة يومها هي السلاح الأكثر إقناعا، اللغة التي تعني القدرة على الشحن والتهييج والتخوين والتهديد، وقد جعلناها منطلقنا في محاولة فرض تصوراتنا في الأماكن التي نحل بها.

في هذا السن أتذكر أننا كنا شيعا وأحزابا، نسهر الساعات الطوال نجادل بعضنا بعضا في الخلافات بينن التيارات الإسلامية، ونتنازع حول من يسيطر على مصلى الثانوية، ونقيم حلقات تدرس العقيدة والمنهج.

لازلت متعجبا من حالنا، وهل حقا كنا يومها نبلغ من العمر 15-16 سنة عندما نظمنا مسيرات داخل الثانوية، تحمل نفس شعارات مسيرات "الكبار"، لا أدري يومها كيف نظر إلينا المدير والناظر والمراقب العام ومسؤولو ثانويتنا، كل ما أذكره أننا تحولنا إلى سلطة حقيقية، بلغ الأمر ببعضنا إلى أن يكتب شعارات حزبه في كل مكان؛ من القسم إلى الساحة إلى المرقد إلى الحائط، فهل حقا كنا مجرد تلاميذ في الثانوية!! وهل يمكن لأبناء الثانوية اليوم أن يتخيلوا – مجرد تخيل- أن جيلا كان في مثل سنهم يظن أنه يحمل مشروعا ويدافع عنه، بينما لم يكن مستوى وعيه يسمح له بالتفريق بين الحقيقة والخيال، ولا بين الحقيقة والشعار.

في هذا السن أتذكر أننا كنا شيعا وأحزابا، نسهر الساعات الطوال نجادل بعضنا بعضا في الخلافات بينن التيارات الإسلامية، ونتنازع حول من يسيطر على مصلى الثانوية، ونقيم حلقات تدرس العقيدة والمنهج، ونتبارى بالأدلة حول الطائفة الحق بين الإخوان المسلمين والجزأرة والسلفية العلمية أو الحركية، ونعرف يومها حسن البنا والهضيبي ومشهور والتلمساني ومالك بن نبي والألباني والغزالي والقرضاوي والبوطي والمدخلي وابن باز والعثيمين وعلي حسن عبد الحميد والهلالي والسقاف وأبو غدة ووليد الأعظمي والعيد شريفي وعبد الملك رمضاني، ونسمع للكشك وعبد الرحيم الطحان وسلمان العودة وعلي بلحاج، ونهتم اهتماما كبيرا بكتب الردود بين هذه الطوائف، فننتصر لطائفتنا، ونصنف الطوائف تصنيفا يشبه كتب الفرق القديمة، وكلنا يقينا أننا نمارس وظيفة البيان ونعمل على نصرة السنة والمنهج الحق، فنترجم ذلك إلى صراعات لا تنتهي حول الكتب والأشرطة التي ينبغي رأن تزال من مكتبة المصلى..

جيلنا هو ذلك الجيل الذي ظن أنه نضج سريعا، لأن الجيل الذي قبله صور له الأمر بتلك الصورة، فلم نكن نملك أكثر من ذلك الوعي بسبب سننا وبسبب مستوى وعي من كنا نسمع له ونثق فيه، وتداعيات السياسات الخاطئة في التعاطي مع المتغيرات التي كانت محيطة بنا عبر الاستعداء والاصطفاف، وفشل القيادات العلمية والفكرية في تأطير الشباب وتوجيه حيويتهم، ولذلك كانت النهاية تدل على الخلل الكبير الموجود في البداية، وكانت الذكريات بقدر ما تحمل من التعجب تحمل المرارة والأسف والأسى، وترجوا من الذين يرعون الأمة سياسيا وعلميا أن يستوعبوا الدرس، ولا يكرروا نفس الأخطاء، وليجعلوا رسم مستقبل مشرق لجيل اليوم هدفهم الأساسي، بعيدا عن الاصطفاف الإيديولوجي الأعمى، ما دمنا نملك القواعد المشتركة التي لابد أن لا نختلف عليها كأمة مسلمة على أرض مجاهدة، تعتبر نفسها مكلفة بأداء أمانة الشهداء.

فلتتعلم الأجيال من بعضها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.