شعار قسم مدونات

حديث السياسة على المنابر الدينية

blogs خطاب ديني

قبل أيام قليلة، مرّ وأنا أتنقل بين مواقع الشبكة خبر مفاده إنزال خطيب للجمعة في مسجد بمنطقة "الحسيمة" بريف المغرب انتقد احتجاجات تطالب الحكومة بإصلاحات معللا ذلك بأنها "تحرض على القلاقل والفتن".

‎ربما تكون الحادثة أمرا مألوفا في كثير من البلدان العربية والإسلامية، لكنها بدون شك تفتح باب الحديث عن قضية حسّاسة خاصة في هذه البلدان التي يشكل فيها الدين محركّا رئيسيا في حياة مجتمعاتها، على الرغم من وجود تأثيرات أخرى كتأثير القبيلة والسلطة والمال، هذه القضية هي "حديث السياسة على المنابر الدينية".

‎طفت هذه القضية على السطح منذ ظهور الحركات الإسلامية التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية والتغيرات الجذرية التي طالت جُلّ الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وخاض فيها الكتّاب والباحثون من مفكرين وسياسيين وعلماء دين. ورغم غزارة ما كُتب عنها، إلا أنها لا تزال محل خلاف كبير بين مختلف التيارات الموجودة؛ لا سيّما بعد الانفتاح التي شهدته بلدان الربيع العربي بعد الثورات.

إن من الأمور التي يجب أن نقرّ بها أنّ إخراج السياسة من الخطاب الديني متعذر وغير ممكن لأنه المؤثر الأول في شعوبنا ومجتمعاتنا، بل إن التيارات العلمانية نفسها لم تسلم من استخدامه للترويج لمشاريعه بمقاربات مع بعض تيارات دينية

‎تقف أغلب الحركات الإسلامية عاجزة عن تقديم نموذج لخطاب إصلاحي في الوقت الذي تتخبط فيه شعوب المنطقة وتعاني تصدعات سياسية واجتماعية كبيرة، والحقيقة المُرّة تقول أن أغلب المنابر الدينية -إلا من عصم الله- لم تقدم في خطابها أي إصلاح سياسي أو اجتماعي يذكر، بل إن بعضها قد ساهمت في هذه التصدعات، تراوح خطابها بين من لا يزال يتحدث عن الوضوء ونواقضه غاضّاً طرفه عن أحوال الأمة السياسية، وبين من يغوص ويتعمق في الأمور السياسية حتى وجد نفسه يتحدث بمنطق سياسي محض، هذا المنطق الذي تحكمه لغة المصالح والتحالفات وغيرها. ولا نريد التطرق إلى المنابر الدينية التي تمجد السلاطين والطغاة؛ فهؤلاء موجودون دائماً، والشعوب الإسلامية في أغلبها تفطنت إلى هذا الخطاب ولسنا بصدد انتقاده أو التحدث عنه.

‎يصرّ بعض الباحثين وأغلبهم من العلمانيين على ضرورة أن تنأى المنابر الدينية عن الخوض في الأمور السياسية برمّتها، علّتهم في ذلك أن السياسة عملية معقدة غالبًا ما تتسرب إليها "القذارة" والدين أمرٌ مقدسٌ وجب أن يبتعد عنها، يضيفون إلى ذلك استغلال المشايخ للدين في خدمة مصالحهم، خاصة أثناء الانتخابات، حيث يشكّل المسجد وسيلة إعلامية فعّالة للترويج لمرشح ما أو التحذير من مرشح آخر.

‎نقيض ذلك ما يراه بعض الباحثين الإسلاميين على أن السياسة جزء لا يتجزأ من الدين؛ وبالتالي من البديهي أن تشكل السياسة محورًا أساسيًّا في الخطب الدينية بما في ذلك الانتخابات والمواقف السياسية المتباينة.

‎أمام هذين الرأيين الذي يتطرف أحدهما إلى أقصى الشمال والآخر إلى أقصى اليمين، يغيب الخطاب الوسط المعتدل المتوازن، الذي يلتزم بمبادئ وقيم الإسلام، ويراعي الواقع الذي تعيشه الشعوب وتقلباته، خطاب يشخّص مشاكل وأمراض المجتمع ويجد علاجا لها، خطاب يرتبط بالماضي ويتصل بحاضر الشعوب ويستشرف مستقبلها. لا يستثني هذا الخطاب الأمور السياسية بحذافيرها ولا يغوص في أعماقها متسببا في خلاف وتشظٍ بين أبناء المجتمع الواحد والبلد الواحد.

الخطاب الذي ندعو إليه هو يجب أن يحافظ على هوية الأمة التي لا تتنافى مع مواكبة العصر وتطوره، خطاب يدعو إلى الإصلاح السياسي على كافة المستويات، الحكام والمحكومين، المستقلين والأحزاب، جميع القوى والتيارات

إن من الأمور التي يجب أن نقرّ بها أنّ إخراج السياسة من الخطاب الديني متعذر وغير ممكن لأنه المؤثر الأول في شعوبنا ومجتمعاتنا، بل إن التيارات العلمانية نفسها لم تسلم من استخدامه للترويج لمشاريعه بمقاربات مع بعض تيارات دينية، كما أن من أبرز مشاكل الخطاب الديني عندما يتناول السياسة هو غياب المرجعية الواضحة وعدم إدراك ما هو سياسي يجتهد فيه الناس ولهم أن يختلفوا ويختاروا منه، وبين ما هو شرع لا خلاف ولا نزاع فيه، ولا شك أنّ سبب هذا الخلط يأتي نتيجة أن من يعتلي المنابر اليوم من أصحاب الفكر الضحل، وممّن لم يدركوا مقاصد الشريعة وسبل الإصلاح في المجتمعات فيصبح الخطاب الديني ضمن دائرة الصراع السياسي ويفقد صدقه وتأثيره لدى كثير من الناس.

إن الغاية الأبرز التي يجب أن يقوم عليها الخطاب الديني عند تناوله للسياسة هي سعيه لترسيخ مبدأ الأخلاق في العمل السياسي، وتحقيق مناطات المقاصد الشرعية في الممارسات السياسية، وذلك بخطاب هادئ يسعى للتقارب وتقليص الخلاف ويرشد الناس برفق ولين.

‎كما أن الخطاب الذي ندعو إليه هو يجب أن يحافظ على هوية الأمة التي لا تتنافى مع مواكبة العصر وتطوره، خطاب يدعو إلى الإصلاح السياسي على كافة المستويات، الحكام والمحكومين، المستقلين والأحزاب، جميع القوى والتيارات، في الوقت الذي يدعوهم فيه إلى ترك الزنا وشرب الخمر وما في حكمها، يدعوهم إلى المشاركة في اختيار من يحكمهم، ويرشدهم إلى أن تزوير الانتخابات واعتقال الناس بغير حق، وسرقة المال العام وغير ذلك من الأمور هي من المنكرات شأنها شأن المنكرات الأخرى التي نهانا عنها الشارع الحنيف. ولا يخوض في التخوين والقدح والترويج، لأن هذا يحط من مكانة الخطاب، ويزيد اتساع الشرخ.

‎إن الخطيب الذي يقف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يستشعر عِظم المكان الذي يقف فيه، فلا يدعو إلى سفك دماء أو هتك أعراض "إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، ويحث على الأخوة والترابط "إن كل مسلمٍ أخٌ للمسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم"، كما ويسعى عبر خطابه إلى تحقيق مصالح الأمة بما يحافظ على مقاصد الشريعة الخمس "المال، العرض، العقل، النسل، الدين" وأضاف إليها العلّامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) مقاصد "العدل، الحرية، المساواة".

‎وفي ظل هذا الواقع المضطرب الذي تعيشه الشعوب العربية بعد الانتفاضات التي حدثت، والانفتاح الكبير على الفضاءات الواسعة لابد للمؤسسات الدينية في هذه البلدان أن تقيّم تجربتها على مستوى خطابها بشكل عام، وبشكل خاص المتعلق بالأمور السياسية، ومن نافلة القول التذكير بأن شعوب المنطقة ليست بحاجة في هذا الوقت العصيب والحسّاس من تاريخها إلى خطاب المغالبة والصدام بقدر حاجتها إلى خطاب الوحدة والتضامن والاستيعاب، وتراثنا الإسلامي يدلنا على صواب هذا الطريق للنهوض مرة أخرى بمهمة إنقاذ مركب الحضارة واستعادة القيم والروح والرباط الناظم لكل الأسرة البشرية على اختلاف شعوبها وأديانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.