شعار قسم مدونات

مقام الحب بين الشعر والمجتمع

blogs - كتاب عليه ورد حب
لست هنا أحاول أن أكرر ما قيل عن الحب بأسلوب آخر أو طريقة مختلفة، فلا يستطيع أحد أن يحصي ما تراكم من المجلدات والدواوين التي جعلت من الحب موضوعا لها. والحب كغيره من القيم الإنسانية العليا ما زالت تتدفق معانيه وتتجدد بحسب المقاربات والمداخل، فالشاعر يرى في الحب ميدانه ويرى نفسه فارسه الأول الذي لا يجارى وهو كذلك أو يكاد، فليس يسعف على ترجمة تدفق أحاسيس الحب وعواطف المحبة إذا بلغت درجاتها نثرا ولا بيانا؛ اللهم بيان الشعر. ثم إن المرء حين تتملكه مشاعر الحب تجاه محبوبه سواء "بتوافق الإرادتين أو بإرادة منفردة" -بتعبير أهل القانون- لا يجد سوى الشعر دوحة تظل حر سمائه وتروي بعض ظمأه. فالشعر هنا له مفعول المسكن أو قل حقنة مهدئة، سرعان ما يذهب مفعولها؛ نعم! ولكن لا يمكن الاستغناء عنها.
وإن تعجب، فعجب لأمر المحب العاشق الذي يقنع بأقل ما يجود به محبوبه عليه، حتى إنه قد يظل طول اليوم واقفا على الرصيف ينتظر أن يحظى بنظرة منها ليعود منتشيا مزهوا فرحا كالطفل وإن كانت لحظة خاطفة بعمر إغلاق ستارة النافذة ودون انتباه من محبوبته. فتأمل! والجميل أن المحب يجد في الشعر كل أحواله على اختلافها وتعقيداتها وغموضها أحيانا، يجدها مسطورة أمامه بأسلوب شاعري موزون، فيحس أن هناك شخصا ما يفهمه، ويشاركه معاناته وشوقه، وأن هناك من سبقه إلى ذلك، والأهم أنه يدرك أن إحساسه هذا هو إحساس إنساني طبيعي راق بل هو شعور نبيل ومتميز.

هل سمعوا نزارا حين أنشد قصائده وهل فهموا كاظم حين غناها بإحساس مرهف، وهي معانٍ تشم ولا تفرك.. ومن ذاق عرف! وأختم هنا بقصيدة جميلة للشاعر تميم البرغوثي أراها لخصت بعض قواعد الحب وقوانينه الخاصة، لا شك أن الذي كان على وعي بها كان على موعد مع السعادة.

لكن! إذا كان من السهل علينا جميعا أن نتفق على أن الإنسان عندما تتملكه مشاعر الحب وتستبد به عواطف الشوق ويميل قلبه ووجدانه كل الميل إلى محبوبه "فطرة الله التي فطر الناس عليها" وأنه حينئذ يكون مستعدا أو على الأقل يعبر عن استعداده لمواجهة كثير من التحديات التي قد تحول دون بلوغ المرام، وأنه في انتظار ذلك لا يملك إلا أن يستعين بالشعر ويتزود به ويضعه كمادات تخفف عنه بعض ما يجده من السهر والحمى! إذا كنا فعلا نتفهم كل ذلك هكذا في الهواء والفضاء بلا سياق ولا أرض ولا سماء، فماذا عن الواقع والمجتمع؛ عن نظرة المجمتع العربي للموضوع ؟!

إن فصلٓ الكلام عن السياق والحديثٓ المجرد عن الأمور والقضايا أمر له أهميته وحضوره، ذلك أنه يكشف عن التصورات الكلية لقضية ما في إطارها العام والنظري، كما أنه لا تستقيم التصرفات ما لم تستقم التصورات! لكنّٓ أيّٓ تصورٍ لا بد أنه يملك في ذاته القدرة على الملاءمة ويملك أيضا آليات تضمن له تلك الملاءمة.

نعود إلى موضوعنا لنوضح المعنى من كل هذا "اللف والدوران"، ونبدأ بطرح السؤال التالي: ألا يقبل المجتمع تلك القصائد الشعرية التي يوجهها الشعراء والعاشقون بحفاوة وابتهاج سواء كانت قصائد غزل وتودد واقتراب أو معاناة ووفرقة وعتاب؟ وفي المقابل كيف تراهم يتعاملون مع أحوال من حولهم من العشاق في الواقع.. ألم يصبح المخيال العام داخل المجمتع يرى كل عاشق مجنونا بل مسحورا "معمول له عمل" "صيرته خاتما في أصبعها"، فكيف نوازن بين الأمرين إذن؟!

من السهل علينا أن نحرف أعيننا عن كل هذه التناقضات بل وأن يرتاح التناقض عندنا في مثل هذه الأمور كأن شيئا لم يكن وأن قضية لم تثر، لتستمرعذابات العاشقين الحيارى ردحا من الزمن بلا حل ولا أمل.. ولأن العلاقة في منطقهم علاقة جدلية وصراع لا بد فيه من منتصر ومنهزم، فإن الصراع المختلق يكشف لنا مع الوقت عن انتصار وهمي لطرف على طرف، ولكن هذه المرة برعاية أطراف أخرى لا صفة لهم ولا مصلحة يخوضون غمار خصومة غير قائمة بين أطرافها ويرفعون بالوكالة دعوى غير ذات موضوع فقط لمجرد أنهم يمثلون المجتمع بتصور متكلف قاصر للأمور أحيانا دون مراعاة لإرادة أطرافها.

فيا ليت شعري كيف يزعم هؤلاء أنهم يفهمون قول الشاعر في البيت الشهير حين يستدعي لفظة "القتل" في معرض الحديث عن الحب والجمال:
إن العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيينا قتلانا
وَيَا قومي أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا

لا أنسى قبل أن أضع نقطة النهاية أن أشير إلى أن مقالي هذا لا يحاول أن يبرر بعض النظرات الاستهلاكية المتهالكة ولا تلك العلاقات المشبوهة، بقدر ما يحاول بذل بعض الإنصاف الذي انقطع الوصل به أو كاد من خلال وصف واقع أحوال المحبين العاشقين الحيارى وما يكابدونه في صمت!

أو قول شاعر آخر حين أنشد:
قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بناسك متعبد
أم هل يفهمون الشاعر الذي ينشد فيقول:
فَرَضَ الحبيب ُ دَلالَهُ وتَمَنَّعَا ***  وَأَبَى بغيرِ عذابِنَا أَنْ يَقْنعا
ما حيلتي وأنا المكبّلُ بالهوى  ***  ناديته فأصَرَّ ألاّ يسمعا
وعجبتُ من قلبٍ يرقُّ لظالمٍ ***  ويُطيقُ رغمَ إبائِهِ أنْ يَخْضَعَا
فأجابَ قلبي لا تَلُمني فالهوى ***  قَدَرٌ وليس بأمرِنَا أَنْ يُرْفَعَا
والظلمُ في شَرْعِ الحبيبِ عدالةٌ ***  مهما جَفَا كنتَ المُحِبَّ المُولَعَا
ولقد طربتُ لصوتِه ودلالِهِ *** واحتلّتْ اللفتاتُ فيّ الأضلُعَا
البدرُ من وجهِ الحبيبِ ضياؤه *** والعطرُ من وردِ الخدودِ تضوَّعَا

أم هل سمعوا نزارا حين أنشد قصائده وهل فهموا كاظما حين غناها.. بإحساس مرهف وذائقة شعرية طافحة، وهي معانٍ تشم ولا تفرك.. ومن ذاق عرف! وأختم هنا بقصيدة جميلة للشاعر تميم البرغوثي أراها لخصت بعض قواعد الحب وقوانينه الخاصة، لا شك أن الذي كان على وعي بها كان على موعد مع السعادة؛ يقول فيها:
وكم أمات واحيا قبلنا أمما *** كم أظهرَ العشق من سرٍ وكم كتَما
قالت غلبتك يا هذا، فقلت لها *** لم تغلبيني ولكن زدتني كرما
بعض المعارك في خسرانها شرفٌ *** من عاد منتصرا من مثلها انهزما
ما كنت أترك ثأري قطُّ قبلَهم *** لكنهم دخلوا من حسنهم حرما
يقسو الحبيبانِ قدْرَ الحبِّ بينهما *** حتى لتحسبُ بينَ العاشِقَيْنِ دما
ويرجعانِ إلى كأس معتقة *** من المحبةِ تَنفي الشكَّ والتُهَما
جديلةٌ طرفاها العاشقان فما *** تراهما افترقا .. إلا ليلتَحِما

إذن هي قواعد متقدمة وموازين متميزة، ليست كباقي القواعد العامة التي تحكم العلاقات الإنسانية الأخرى.. وجب الوعي بها والعمل على إشاعتها وتكريسها! ولا أنسى قبل أن أضع نقطة النهاية أن أشير إلى أن مقالي هذا لا يحاول أن يبرر بعض النظرات الاستهلاكية المتهالكة ولا تلك العلاقات المشبوهة، بقدر ما يحاول بذل بعض الإنصاف الذي انقطع الوصل به أو كاد من خلال وصف واقع أحوال المحبين العاشقين الحيارى وما يكابدونه في صمت!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.