شعار قسم مدونات

ترمب ولعبة العروش الخليجية

blogs ترمب فى الخليج

منذ انتخاب ترمب وعدد من وسائل الإعلام الأمريكية والدولية تشبهه بشخصيات كرتونية وسينمائية ومسلسلات الصراعات السياسية والأمنية، لكن المشهد الذي تبع زيارة ترمب إلى الخليج يمثل حلقة مشوقة من مسلسل لعبة العروش الذي بدأت أحداثه في بلادنا بسقوط بن علي ولا يبدو أنه قريب من كتابة جزئه الأخير. ترمب الذي لم يستقر جلوسه على مقعد الرئاسة الأمريكي قبل أن يتعرض للتحقيق حول قراراته وارتباطاته الخارجية، وافق على إشعال صراع عروش جديد في دول الخليج التي انتقدها في حملته الانتخابية ثم لجأ إلى أموالها ليدعي انجازا اقتصاديا بخلق آلاف فرص العمل في اقتصاد بلاده المتعثر.

سياسة خارجية أمريكية ليست جديدة من حيث إشعال المعارك الإقليمية التي تبتز واشنطن طرفيها، لكن معركة دول الخليج تتجاوز حدود الإقليم فهذه الدول الثرية تشد بأذرعها الطويلة كثيرا من الخيوط المتشابكة في السياسة الدولية. وصول أمير شاب لعرش أكبر الدول الخليجية وأغناها بمباركة ترمب حلقة ستتبعها حلقات من محاولات هز العروش وتغيير معالم المنطقة وتركيبتها، فالأنظمة القائمة في المنطقة أكثر هشاشة مما يعتقد قادتها ويدعون، فالشبكة المعقدة من الشخصيات والشركات التي تعمل لصالح هذه الدول تضيف عبئا على كاهلها لا يقل عن القيمة المضافة التي تكسبها هذه الدول من كل هؤلاء، ومن يعمل لصالحك اليوم قد يعمل ضدك غدا أو يسهل اختراق بريدك الإلكتروني.

لكن الحقائق تؤكد بأن حرائق الأمريكان في المنطقة تؤذي الجنود المحليين وتوغل صدورهم ضد بعضهم بينما تعقد الشركات الأمريكية الصفقات مع أشباه الدول التي تديرها واشنطن كما تدير طائراتها الموجهة. 

لا شك أن قادة الدول المحاصرة لقطر يدركون بأن إشعال معركة ما -اختاروا أن تكون مع قطر- كان ضروريا لتمرير قرارات الفجر التي غيرت معالم عرش المملكة السعودية وغيرت عددا من ملامح المشهد الإقليمي

والحقائق أيضا تؤكد بأن ترويج الكراهية التي تزرعها المعارك الصغيرة في صدور ملايين من يتحولون إلى منادين لخراب بيوتهم وبيوت جيرانهم هي إحدى أدوات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فبذور الكراهية التي تدعي أمريكا محاربتها تزرعها اليوم كمسودات عقود لخدمات مستقبلية يحتاج إليها المتنازعون.

ولا شك أن قادة الدول المحاصرة لقطر يدركون بأن إشعال معركة ما -اختاروا أن تكون مع قطر- كان ضروريا لتمرير قرارات الفجر التي غيرت معالم عرش المملكة السعودية وغيرت عددا من ملامح المشهد الإقليمي، فحتى تقوم بخطوات داخلية مصيرية عليك أن تحشد الرأي العام لمعركة خارج الحدود وخطر محدق لا بد من التوحد في مواجهته.

ولكن ما يدركه قادة الدول المحاصرة لقطر أيضا هو أنهم سيصلون إلى اتفاق لتسوية الأوضاع مع قطر خلال أسابيع أو شهور تحت ضغوط ترمب الذي سيحصل على مبتغاه من الصفقات وسيبدأ بتصدير سياسات بلاده الجديدة في المنطقة، والتي تحتاج إلى طاعة قادة المنطقة لتوجيهاته مع استمرار خلافاتهم البينية التي سيكون هو الحكم والضامن فيها.

وتدرك المؤسسات الأمريكية بأن اليد الفضفاضة التي تعاملت بها إدارة أوباما ملفات المنطقة أتاحت لعدد من القوى الإقليمية والدولية الاستحواذ على عدد من الأوراق الهامة لمنافسة السيطرة الأمريكية التي ضجرت بها هذه القوى، وتلك اليد الفضفاضة التي انتقدها حتى بعض مسؤولي إدارة أوباما لا بد أن تستبدل بيد أمريكية أكثر صرامة لتحقيق النتائج ومنع اقتطاع مزيد من النفوذ الأمريكي في المنطقة.

أجندة ترمب المعلنة هو أنه يريد واقعا جديدا في هذه المنطقة، ولأنه يواجه تهما وانتقادات داخلية فإنه سيسعى إلى اشعال كثير من المحارق التي يعود منها بالمنافع للشركات الكبرى في واشنطن، الشركات التي لا تضغط فقط على الإدارة لتحريك عجلة الاقتصاد بل تحرك وسائل الإعلام الأمريكية وأعضاء الكونجرس لدعم أي قرار وأي توجه حول أي قضية.

لكن عقيدة ترمب وشركات واشنطن هي المال، وإذا استطاعت أبو ظبي والرياض أو الدوحة شراء بعض الخدمات من هذه الشركات لشهور فإن طهران وغيرها من العواصم الإقليمية والدولية تستطيع شراء ذات الخدمات ببعض المزايدة.

وحتى تخرج باستنتاج واضح من هذه الخريطة المعقدة فإن عليك حساب المصالح الكبرى للدول الكبرى أولا، ترمب وبلاده يريدان المال من جميع دول الخليج ويريدان تأييدا لما ستطرحه إدارة ترمب في سوريا وما ستقدمه من صفقات لطهران ومن خلفها موسكو.

أن دول الخليج وعروشها هي الخاسر الأكبر في هذه اللعبة، فمواردها تستنزف في تمويل وإدارة معارك صغيرة في بلدان الخريف، ومن ثم تنفق دول الخليج أموالها في تلميع وتشويه صورها وصور أعدائها المحليين والإقليميين في واشنطن وعواصم أوروبية أخرى

أسهل أحجار الشطرنج تحريكا هي دول الخليج المتنازعة على إدارة مخلفات عروش سقطت وتحولت بلدانها إلى ساحات حروب تمولها دول الخليج وتتصارع فيها على إعادة تعريف الوطن والدين والحق والباطل تاركة شعوب هذه البلدان في مواجهة الجوع والمرض والموت.

أحجار شطرنج أصغر تحركها دول الخليج بالأموال لتأخير الصفقات والتسويات في بلدان طال خريفها بسبب نزاع أجندات دول الخليج التي وظفت جنودها المحليين في خلق كراهية كافية لاستمرار حالة اللاسلم واللا حرب لعقود. وما دام ترمب يخرج من حفرة ليقع في اختها في بلاده فإنه سيحاول الهروب إلى النزاعات الإقليمية في الدول الهشة التي لا تقول لا لأمريكا حتى وإن كان ذلك على حساب مستقبلها ومستقبل الملايين من الشعوب المهمشة.

لكن الخلاصة تبقى أن دول الخليج وعروشها هي الخاسر الأكبر في هذه اللعبة، فمواردها تستنزف في تمويل وإدارة معارك صغيرة في بلدان الخريف، ومن ثم تنفق دول الخليج أموالها في تلميع وتشويه صورها وصور أعدائها المحليين والإقليميين في واشنطن وعواصم أوروبية أخرى، ومن ثم تدفع لترمب وشركات واشنطن ثمن الوساطة وحل الخلافات كي لا يقتتل الجيران وأبناء العمومة، ثم يتفاخر ترمب بتجنيبه دولا غنية مرفهة الشعوب ويلات حرب وشيكة قادتهم إليها لعبة العروش التي يستمتع بمشاهدتها القريب والبعيد لفرط ما فيها من كوميديا تدهش حتى أبطالها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.