شعار قسم مدونات

الدعوي والسياسي.. مزيد من الحصار خلال العقدين القادمين

مدونات - القرضاوي
دعنا نقف على المعطيات ومجريات الأحداث الأخيرة لنعيد النظر في كثير من الأمور:
– الحدث الأخير هو "تحرير" مدينة المَوْصل والقضاء شبه النهائي على ما سمي زورا وبهتانا بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش)، إذ دون الحديث عن التدمير الكامل والشامل للمدينة من قبل القوات العراقية تحت مسمى معركة التحرير، لا يخفى على أحد أن المعطى الديمغرافي لهذه المدينة التاريخية قد تغير بالكامل بعد أن كانت تضم مليوني ساكن من مسلمي العراق السنة أصبحت اليوم بيد قوات الجيش النظامي الشيعي بعد أن أفرغت من سكانها.

– الحدث الثاني هو ما صار قبل شهر من إعلان دول الخليج حصارا على قطر بتلك الشروط العدوانية وانضمام السعودية إلى المعسكر الإماراتي والعدواني على المقاومة في فلسطين وعلى الإخوان المسلمين في العالم.

-الحدث الأول هو الانقلاب المصري وما تبعه من خطى نحو دعم خيار التطبيع مع الكيان الصهيوني عبر اجتماعات سرية ومقترحات لتغيير الخارطة الفلسطينية ورسم معالم شرق أوسط جديد.

في خضم تسلسل هذه الأحداث، الورقة الوحيدة التي خلطت أوراق مخطط الشرق أوسط الجديد الذي رُسمت معالمه منذ انقلاب مصر هو فشل انقلاب تركيا، والذي استغله حكام إسطنبول لكي يستفيدوا مما حدث ويثبّتوا حكمهم الديمقراطي وسط عواصف ومخططات الثورة المضادة.

المعطى الذي من المهم التركيز عليه وسط هذه التغييرات الجذرية (الجيوسياسية والديمغرافية) هو انتقال السعودية إلى معسكر الثورة المضادة والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وسوف يُستعمل العامل السعودي في العقود القادمة كعامل ديني (ليحل محل العامل الأمني الذي استُعمل طيلة الحقبة الماضية لإسكات أي صوت معارض) لمزيد الضغط على شعوب المنطقة.

كخطوة استباقية للتصدي لهذه الحرب الشاملة على كل ما هو "إخواني" معتدل دينيا ومعادي للكيان الصهيوني الغاصب، فإني أنصح بدعم المؤسسات الإسلامية الأوروبية وعلى رأسها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

هذا من جهة ومن جهة ثانية لقد انحسر صوت "الإسلام السياسي" الإخواني إن شئتم أن نسميه، انحسر في شكله التنظيمي والفكري وحتى المذهبي (السُّنة) في القارة الأوروبية وقطر وتركيا والمتمثل في مؤسسات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (قطر) واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث (أوروبا) والتنظيمات الإخوانية في كافة دول العالم (تركيا).

ولو رجعنا ستين سنة إلى الوراء لوجدنا أن المملكة العربية السعودية (وبعض دول الخليج) كانت الحاضنة لجماعة الإخوان المسلمين على كل المستويات المادية والاجتماعية وحتى الفكرية، إذ لا يخفى على أحد التقارب الذي حصل بين حركة الإخوان المسلمين والحركة الوهابية في بُعديْها "السلفي" الفقهي والعلمي، وخاصة إبان حقبة كتابات سيد قطب التي التقت في نسبة كبيرة منها مع مرجعيات محمد بن عبد الوهاب في تحديد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. ذلك التقارب السعودي الإخواني مكّن لمؤسسة الأزهر في مصر أن تكون لوحدها تقريبا القاعدة الخلفية لكل مواجهة "دينية" مع الإخوان المسلمين، حيث تُطلق كل الصواريخ والرصاصات والفتاوى ضد جماعة الإخوان في ملاجئها في أوروبا ودول الخليج من خلال تلك المؤسسة.

اليوم وبعد هذه التطورات في الخليج، وبعد فقدان مؤسسة الأزهر هيبتها لدى شريحة كبيرة من العالم الإسلامي السني (بعد أن ساندت بشكل مفضوح جرائم القتل في رابعة والنهضة)، سوف تُستعمل المرجعيات الدينية السعودية والوهابية لضرب حركة الإخوان المسلمين وتوجيه الرصاص صوبها من خلال المؤسسات العريقة في المملكة وعلى رأسها رابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من الوجوه الدينية ذات الرمزية والتأثير في الشارع العربي السني.

وإذا علمنا أن نسبة كبيرة من الموارد المالية للجمعيات والمراكز والمنظمات العاملة في الحقل الدعوي والتربوي والتعليمي مأتاه من الخليج، فسوف تواجه الحركات والمؤسسات الإخوانية في القارة الأوروبية والأمريكية نوعا من الضغط عليها لمحاصرتها ماديا وتنظيميا لتقصيب أجنحتها وتجفيف ينابيعها في محاولة لإغراقها في وحل المادية الغربية والسياسات المطبّعة مع الكيانات المتصهينة وكذلك الثقافة المنحلة أخلاقيا في أوروبا.

وأول من سيقع عليه هذا الضغط في أوروبا هم الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين الذين تربوا طيلة العقدين الماضيين على أسس إخوانية ومرجعيات أنا أقول أقرب إلى السلفية منها إلى الإخوانية، هذه الأجيال التي نشئت على الوسطية والاعتدال ومفاهيم الاندماج الإيجابي والمحافظة على الهوية من خلال التمسك بالأسس الكبرى للإسلام وعلى رأسها الصلاة في المراكز الإسلامية وصوم رمضان والتزام الفتيات بلبس الحجاب وتعلّم اللغة العربية في المجتمعات الغربية، سوف تواجه هذه الأجيال نوعا من "الابتلاء" في عقيدتها وسلوكها المُسلم بتخلي أقرب الناس إليها وهي الجمعيات والمنظمات والشخصيات الدينية والاعتبارية (الخليجية والسلفية)التي كانت تدعمها في السابق وتحضر لمحاضراتها وتنال من ينابيعها.

ويؤكد ذلك ما جاء على لسان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد بن عبد الكريم العيسى لصحيفة "فرانكفورتر ألغماينه" الألمانية (10 ماي 2017) التي أوجب فيها على مسلمي أوروبا الانصياع إلى قوانين تمييزية بحقهم، أو الرحيل عن أوروبا إن لم يتمكنوا من ذلك، وهو ما يتعلّق بالمسلمات بصفة خاصة كما جاء عنه.

هذه الطعنة في الظهر للمسلمين المقيمين في أوروبا من أصدقاء العقيدة بالأمس سوف تكون لها انعكاساتها المباشرة وسوف نرى ونسمع خلال السنوات العشر أو العشرين القادمة مراكز تُغلق في أوروبا، وخاصة تلك التي كانت تُموَّل 100 بالمائة خليجيا، وفتيات تنزع الحجاب وجماعات وأشخاص كانوا رواد الدعوة بالأمس سوف نراهم يهرعون إلى عتبات السفارات الخليجية لإعلان الولاء والطاعة والتخلي عن كل المفاهيم الإخوانية التي عملوا على توطينها ونقلها للجاليات المسلمة في الغرب.

أنصح بتوجيه أبناء المسلمين في أوروبا إلى الدراسات العليا ضمن اختصاصات الحقوق والعلوم السياسية والتمكن من اللغات المحلية لبلدانهم التي أوتهم وأوت آباءهم لمواصلة مشوار الدعوة ونصرة القضية الفلسطينية بعد أن تخلى عنها "أصحابها".

وكخطوة استباقية للتصدي لهذه الحرب الشاملة على كل ما هو "إخواني" معتدل دينيا ومعادي للكيان الصهيوني الغاصب، فإني أنصح بدعم المؤسسات الإسلامية الأوروبية وعلى رأسها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا وكل المنظمات "الإخوانية" الأوروبية، إذ العنصر والرمزية الاعتبارية الشبه الوحيدة المؤثرة في بقاء هذه المنظمات والمؤسسات قوية ومحترمة في أعين المسلمين هي شخصية الشيخ القرضاوي الذي ساهم في إرساء هذه المؤسسات مع ثلة من إخوانه.

وبما أن الشيخ القرضاوي -حفظه الله- قد فات التسعين من عمره (من مواليد 9 سبتمبر 1926)، وجب على أهل الدعوة أن يفكروا في خليفة قوي يخلف القرضاوي على هذه المؤسسات للحفاظ على الدعم المعنوي للمسلمين في الغرب، وإني لا أرى شخصية صالحة للقيام بهذا الدور أكثر من الشيخ راشد الغنوشي الذي لا أرى له باعا في السياسة في بلده تونس، وكل ما يحاولون إيهامنا به من دوره المركزي في استقرار الأوضاع في تونس هو من باب المغالطة لا غير وإني أراه أنفع للمسلمين وللدعوة على رأس تلك المؤسسات الأوروبية والعالمية منه على رأس حزب حركة النهضة.

كما أنصح بتوجيه أبناء المسلمين في أوروبا إلى الدراسات العليا ضمن اختصاصات الحقوق والعلوم السياسية والتمكن من اللغات المحلية لبلدانهم التي أوتهم وأوت آباءهم لمواصلة مشوار الدعوة ونصرة القضية الفلسطينية بعد أن تخلى عنها "أصحابها" من العربان وتركوا حركة حماس لوحدها بين قبضة العدو الصهيوني ومطاردة عربان الخليج وجيرانهم المصريين لهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.