شعار قسم مدونات

الحرب العقائدية

blogs- الكمبيوتر
كلما مرت محنة على المسلمين إلا وظن أنها القاصمة وأنه لم يسبق للناس أن واجهت مثلها فهذا ابن الأثير يعلق على مجازر المغول فيقول: "ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا"، لو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. كل من عاصر تلك الفترة كان يتوقع نهاية الإسلام لكثرة الأعداء وفجوات الفرقة وعلامات الفشل، ولكن التاريخ مغرم بكسر التنبؤات وتغيير المعطيات وقد شهد العالم فظائع تفوق ما فعله المغول وكان للمسلمين في كل منها نصيب، ولكن رغم ذلك لم يواجه المسلمون منذ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديا يماثل التحدي الذي يقفون أمامه في هذا العصر، ولم يجتمع عليهم منذ بدايات الدعوة عدو يجاري خطورة عدو هذه الفترة.

أخطر ما يكون من العدو هو ما يجهل عنه، لهذا كانت مهنة التجسس ولا تزال من أهم المهن العسكرية والسياسية، عند الأمم كان اكتشاف سر عسكر ما أو بلد ما يغير كل موازين المعادلة ويقلب الهزيمة نصرا والضعف قوة والخوف ثقة، بينما تعد كل معلومة مجهولة عن العدو سيفا حادا مستعدا لأن يغرس في صدر أي جيش وقلب أي دولة، وقد سجل لنا التاريخ الكثير من قصص النجاحات المبهرة لجماعات ودول وجيوش كانت ناقصة عدة وعتادا، ولكنها تغلبت بجهل عدوها عنها، وفي التاريخ الإسلامي نشأت فرقة أرعبت العالم بأسره رغم قلة أتباعها وقوة أعدائها، وهي فرقة الحشاشين الباطنية التي استطاعت الولوج إلى أعتى القصور والنيل من أعظم المحصنين، والسيطرة العاطفية بالترهيب على ممالك بأسرها كسبت كل ذلك بسريتها وعملها في الخفاء وغياب خططها واستراتيجيتها عن خصومها.

شكل الحرب العقائدية اختلف تماما في عصرنا وفتحت أمام الآخر أبوابا لم تستطع قرون من الحرب أن تفتحها وكسرت أسوار وهدمت حصونا وتم كل ذلك عبر وسائل الاتصال الحديثة التي استطاعت أن تدخل بيوت المسلمين، وأن تلج أبعد النقاط، فبثت في الأمم الإسلامية أفكارا لم تكن تطرح .

ونحن الآن نواجه عدوا أخطر من فرقة الحشاشين، فقد ولى زمن الحرب المباشرة لتقييد الأمم واستلاب الأوطان وتغيير العقائد، ولم يصبح حشد الجيوش وشحذ الأسلحة كافيا لتحقيق أهداف السيطرة، بل أصبح مكلفا وغير مجد، وتحول من وسيلة هجوم وسيطرة إلى أداة ردع وتخويف لا غير، واستقر أمر التصرف في الخصوم وتحريك المصالح إلى أسلحة أكثر فتكا لا يمكن التحكم فيها ولا القضاء عليها، أسلحة صار الضحية يجتلبها إلى داره ويمنحها أهله ويستعملها في القضاء على ذاته دون علم، أتحدث عن وسائل الإعلام وتقنياته، أتحدث عن التلفاز وقنواته، عن الهاتف وتطبيقاته عن الكمبيوتر وشبكته.

كان البعد الجغرافي والانقطاع التواصلي محافظا طبيعيا على العقائد والقيم، وحاجزا منيعا في وجه الغزو اللامادي استطاع المسلمون من خلاله أن يثبتوا على أيديولوجيتهم وأن لا يذوبوا في وجه التغيير الخارجي، وكانوا يرون ذلك شرفا واعتزازا وغيره ذلا وهوانا، لهذا كانت نسوة قسنطينة حين دخول الاحتلال الفرنسي إلى المدينة سنة 1837 يرمين بأنفسهن من الفجاج الشاهقة المطلة على وادي الرمال كي لا يقعن في يد المحتل، لم يكن الأمر مجرد خوف على العرض، بل كان هربا من فكرة تقاسم الحياة مع من يخالفك فكرة الوجود، وأتذكر رواية قصتها نسوة العائلة عن جد لنا رجع إلى منزله راكضا آمرا أهله بالتجهز للهجرة نحو تونسن بعد أن عثر في حقله على قبعة جندي فرنسي أتى بها الريح من أماكن قريبة كان قوله معبرا فنقش في رأسي، لا مكان لنا في أرض يدوسها النصارى.
 
أمثلة عديدة عن تحسس المسلمين من فكرة العيش تحت عقائد وممارسات تخالف عقيدتهم وطريقة وجودهم، حتى إن أحدهم يغني شاعرا في فترة الاحتلال الفرنسي: "الدنيا فازوا بها الأولين راحو منها غانمين ما شافوا نصراني". هذا الفرار الأيديولوجي والتخفي العقائدي كان أول ما حاربه المحتلون في بلاد المسلمين، ففتحوا مراكز تخريب العقول قبل الأجسام وعملوا على غلق المساجد والكتاتيب وتعليم الأطفال في المدارس النصرانية وبث رجال الدين في القرى والمداشر وأثرهم ما زال حتى الآن في بعض قرى الجزائر التي كانت معقلا للآباء البيض الكنسيين الذين عملوا على مسح هوية الجزائري المسلم وقد قال الكاردينال لافيجري: "يجب علينا أن ننزع سلاح الجزائريين الفتاك وهو الإسلام".

أعظم تحد يواجهه المسلمون الآن لا يكمن في تشخيص الداء بل في العثور على الترياق، ليس تجنبا لنهاية الإسلام الذي سوف يستمر وعدا من الله، ولكن حفاظا على مجتمعات متناسقة تستطيع أن تشكل أمما قوية تدافع عن بقائها واستمرارها.

كذلك سعى النصارى عبر قرون الصراع المستمر مع المسلمين إلى خلخلة عقائد الناس ببث الشبهات في ثوابتهم، وقد كثفوا من ذلك في القرون الأخيرة حيث عمل المستشرقون بجد في سبيل إظهار شبهات حول الثوابت الإسلامية، سقط أمامها الكثير وثبت الأكثر، ولكن كانت كل محاولاتهم تقتصر على المكان الذي تصل إليه والذي كان بدوره محدودا جدا لا يتعدى نطاق الدوائر الأكاديمية.

شكل الحرب العقائدية اختلف تماما في عصرنا وفتحت أمام الآخر أبوابا لم تستطع قرون من الحرب أن تفتحها وكسرت أسوار وهدمت حصونا وتم كل ذلك عبر وسائل الاتصال الحديثة التي استطاعت أن تدخل بيوت المسلمين، وأن تلج أبعد النقاط، فبثت في الأمم الإسلامية أفكارا لم تكن تطرح ومواضيعا لم تكن تناقش، وتبدت ظواهر لم يكن أحد يتوقعها وتفشت في كل المنازل أفكار هوجاء فككت الصفوف وخلخلت التوازنات الاجتماعية، فسرى الإلحاد وشاع الدوس على المقدسات وسقطت هيبة المبادئ واتبع المسلم النصراني في هيئته وتصرفاته ولغته، وذاب جليد التميز فانساب غيثا نافعا في أراضي الغرب بينما تدفق سيلا عرما في أراضي المسلمين، غرق فيه الكثير ونجا منه القليل، وبقي البعض يتشبث بقشة من يقين وهو بين النجاة الغرق. وصار الإسلام يشرف على منحدر سحيق نهايته مجهولة تجعلنا نجزم قطعا أنه لم يبق للإسلام أن لاقى موقفا صعبا مثل الذي يلاقيه الآن منذ أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".

وأعظم تحد يواجهه المسلمون الآن لا يكمن في تشخيص الداء بل في العثور على الترياق، ليس تجنبا لنهاية الإسلام الذي سوف يستمر وعدا من الله، ولكن حفاظا على مجتمعات متناسقة تستطيع أن تشكل أمما قوية تدافع عن بقائها واستمرارها، وهذا هو دور المفكرين والعلماء والمربين، وكل من كان له وعي بحجم المشكلة وعظم المسؤولية، ويجب أن تنصب جهود الجميع في نفس المجرى وإلا ابتلعتها شقوق الأرض القاحلة التي خلفتها نار الهجومات المنظمة عبر وسائل الإعلام وتقنياته، ولتكن تلك هي الأولوية، فلم يعد يجدي وعظ أو خطابة أو تربية فالسيل جارف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.