شعار قسم مدونات

هل نحن فقراء يا أبي؟

blogs اب وابنته

قضيت سنوات طويلة من طفولتي وأنا أظن أنني أنا، ابنة رجل التعليم المتواضع وراتبه الأشد تواضعا، حفيدة الفلاح الأمازيغي من جهة والشرطي "العروبي" من جهة أخرى، قضيت طفولتي وأنا أظن ظن اليقين أنني وعائلتي من أغنى أغنياء البلد.

حين كنت أقرأ قصص الأطفال المبطنة سطورها بالرسائل والعبر التي تدعو إلى التواضع وتنهى عن الكبر والتكبر، كنت أعتبر أنني مقصودة بالرسالة، وما أن أنتهي من قراءة القصة وحكيها لأمي بعد ذلك حتى أجدني أعاهدها والله ونفسي ألا أتكبر يوما على فقير مد يده يتسول أو أن أهينه بكلمة أو حتى نظرة، تصديقا مني بأن أذل الناس من يهين الناس وأن كل الفقراء يتسولون.

والجدير بالذكر أن فكرة كوننا أثرياء ما صرح ولا لمح لي بها أحد قط، لا من قريب ولا من بعيد، بل كانت فكرتي الشخصية التي كونتها لأسبابي الشخصية.. أسباب كانت أكثر من كافية لجعل طفلة ساذجة تتوهم بأن أهلها أصحاب عز ونغنغة.

أدركت أنني قضيت ما يفوق الأحد والعشرين ربيعا من حياتي في بادية صغيرة متنكرة في هيئة مدينة، وأن شساعة الهوة بيني وبين من كبرت وإياهم من الفقراء المعوزين هي ما جعلتني أتوهم خطأ بأنني من الأثرياء

حين كان جل زملائي في المدرسية الابتدائية يعودون إلى مقاعد الدراسة وأجسامهم النحيلة تكسوها نفس الخرب البالية التي انطفأت ألوانها من شدة الغسيل وتكراره، كنت أنا أشتري بدل الثوب ثوبين، وبدل الحذاء حذاءين، وإن حدث وكان أبي في مزاج جيد كنت أشتري فوق ذلك كله ساعة أو دملجا أزين به معصمي الصغير.

بينما كان أصدقائي يتهافتون كل يوم ساعة الفسحة وراء بائع المثلجات المتجول لاشتراء كوز البوظة دو الخمسين سنتيما أو ما كنا نسميه "لاباني"، كانت تلك البوظة كالفاكهة المحرمة بالنسبة لي، يمنع منعا باتا بأوامر من والدي أن تلامس لساني البورجوازي الصغير، مخافة أن أمرض أو أتعرض لتسمم غذائي. بدل ذلك كنت أشتري بوظة مغلفة بغلاف عليه بطريق صغير.. بوظة مبسترة لا خوف على صحتي منها، يضاهي ثمنها ستة أضعاف ثمن البوظة الأخرى.. بوظة الفقراء الذين لا يمرضون. كنت إذا مرضت أتعالج، وإذا جعت آكل، وإذا تعبت أنام، وإذا شعرت بالملل ألعب، وإذا طلبت لعبة جديدة قلما كان الجواب لا.

قضيت سنوات طويلة على هذا الحال، غارقة في وهم الطفولة الوردي، إلى أن حل اليوم الذي اضطررت فيه إلى ترك عش العائلة الصغير الآمن والتحليق بعيدا إلى سماء المغرب النافع لطلب العلم. حزمت حقيبتي المصنوعة من البلاستيك الصلب وركبت الحافلة إلى حيث يجر الناس وراءهم حقائبا من الجلود الفاخرة.. إلى مدينة الرباط.. هناك ربطت وهم الثراء إلى جدار غرفتي في الحي الجامعي وقتلته.

ما أن انقضت السنة الدراسية الأولى فيمن يراد بها أن تكون عاصمة الأنوار حتى تبدد عندي وهم الثراء وصرت من المبصرين. رأيت حينها الحقيقة من حولي بعيون كبيرة وواسعة. وأدركت أنني قضيت ما يفوق الأحد والعشرين ربيعا من حياتي في بادية صغيرة متنكرة في هيئة مدينة، وأن شساعة الهوة بيني وبين من كبرت وإياهم من الفقراء المعوزين هي ما جعلتني أتوهم خطأ بأنني من الأثرياء.

أغمض عيني لأنني لا أشبه أحدا من الطرفين، فأنا في نظر سائق السيارة الفارهة أكاد أكون مجرد حشرة، والأحشر مني ركاب الحافلة إذا جاز في صفة الحشرة التفاضل، ولكنني في نفس الوقت أحسن حالا منهم وربما لا أفرق في نظرهم عن سائق السيارة في شيء

هنا العاصمة.. وهنا عشت وعايشت لأول مرة عقدة الاسم العائلي الذي لا يحيل على عائلة عريقة الأصل والنسب، وهنا فهمت جيدا علاقة التناسب المباشرة بين عدد الأرقام في حسابك البنكي وما تستحقه من احترام وتقدير.. هنا جمعني كوب القهوة تارة وسندويتشات الشاورما تارة أخرى بأشخاص لم يترددوا يوما في إبداء استغرابهم لفكرة أن الوافدين من أبناء المناطق المصطلح عليها ب"الداخل" أيضا يدرسون ويتعلمون ويتفوقون ويجيدون اللغات الأجنبية والرياضيات والفيزياء ويطمحون إلى منافسة غيرهم ممن ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب على مناصب الشغل وفرص العمل.

مرت السنة تلو الأخرى.. وداهمتني الساعة الثانية عشر ليلا وأنا هنا.. فتحولت من شخصية السيندريلا الثرية إلى ما يشبه شخصية سميرة توفيق في فيلم "بدوية في باريس". ولأن ما يثير استغرابك للوهلة الأولى لا تستغرب له كل مرة، وصلت إلى مرحلة التعود.. تعودت عيناي على مظاهر الفروقات الاجتماعية الصارخة. لم أعد أنبهر لفحش الثراء ولا لجبروت الفقر الذي يقهر نفوس الأعزاء. لكنني اليوم كلما توقفت بالسيارة أمام إشارة مرور حمراء، أحرص حرصا شديدا على أن أغمض عيني تفاديا لرؤية حافلات النقل العمومي المكتظة بالركاب وأجسامهم مكدسة بعضها فوق بعض، ووجوههم الشقية تكاد تهشم زجاج النوافذ، وبمحاذاتهم سائق أو ربما سائقة، في سيارة يفوق ثمنها ثمن شقة من شقق السكن الاقتصادي التي تغنى بها الساهر في رمضان.

أغمض عيني لأنني لا أشبه أحدا من الطرفين، فأنا في نظر سائق السيارة الفارهة أكاد أكون مجرد حشرة، والأحشر مني ركاب الحافلة إذا جاز في صفة الحشرة التفاضل، ولكنني في نفس الوقت أحسن حالا منهم وربما لا أفرق في نظرهم عن سائق السيارة في شيء.. فيلتبس علي الأمر وأحس بالضياع.. هكذا يحصل معي كل مرة، وكل مرة أقرر أن أهاتف أبي لأسأله وأنسى أن أفعل.. ويبقى السؤال معلقا، هل نحن فقراء يا أبي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.