شعار قسم مدونات

في البحث عن السعادة

blogs السعادة

كان هو صاحبي ونصيفي.. وكنت أنا بئرَ أسراره.. أستطيعُ أن أحدِّثَكم عنه الآن.. وعن رحلته من الشقاء إلى السعادة.. فبقدرِ ما كان يُخفي أيَّ خطوةٍ في طريقِه إلى سعادته حين كان تائهاً عنها، فقد صار الآن توّاقاً لنشرِها بعد وصوله إليها.

كان صاحبي هذا يضحكُ منّي بشراهةٍ كلّما عرضتُ عليه أسئلَتي عن الوجودِ من أين كان وإلى أين سيكون.. وكم صفعَني على قفاي متسائلاً عن نوعية الحشيش الذي يبقي أسئلة مراهقتِي على بكارةِ فورتِها، ولماذا يحسّ كلما رآني أنه رأى كتاباً عتيقاً يُريد تمزيقَ صفحاته ونثرها في الهواء لتلامس الحياة الحقيقية..

بدأ مبكراً بتحديد هدفِه من دنياه بذكاء.. هو يريدُ السعادةَ فحسب.. وكان شديدَ الوعيِ بالتفريقِ بين السعادة بحدِّ ذاتِها وبين أسبابِها.. بين الغايةِ وبين وسيلتِها.. وكان يرمي الوسيلةَ بشجاعةٍ في سلةِ المهملات إذا لم تُحققْ له غاية السعادة ولهذا السبب بالتحديد كنت أراقبُه لأرى عمّ ستسفر الأمور لديه.

 

في البدايةِ رأى أن الدنيا التي تحيط به منقسمة إلى أربعةِ أقسام.. أشياء يملكُها ويحبها وأشياء يملكُها ولا يحبُّها وأشياء يحبُّها ولا يملكُها وأشياءُ لا يحبُّها ولا يملكُها.. تخلّى بشجاعة المستهتر عن الأشياءِ التي يملكها ولا يحبها.. فاعتزل عائلتَه.. وهجرَ أغلبَ أصدقائه.. ثم سافرَ عن بلده التي تربى فيها إلى الخليج.. ثم غيَّر اختصاصَه الجامعيّ وتركَ الهندسةَ واشتغل في المقاولات..

بدا لديه الاختلاف الحقيقي بين مفهوم اللذة والسعادة.. بين اللذةِ المؤقّتة التي تُسببها شهوةُ امتلاكِ الأشياء أو التأثير في الأشخاص وبين السعادة الحقيقية المتجلّيةِ في القرب من الله الذي تستشعرُه النفس المطمئنة

ولم يكن لديه شيء يملكُه ويحبّه سوى نفسِه ووجههِ الذي أدمنَه في المرآة وجسدِه الذي أدمن على مضاجعته وقد سخر باحتقارٍ من الأشياءِ التي لا يملكها ولا يجبها.. فلم يجاملْ من حولَه في أي مناسبةٍ اجتماعية لا تروقه.. وكان ينعتني بالمتخلف كلما حدثته عن شيء من أمور دينه.. ولا أدري ما السرّ في صبرِه عليّ أو احتفاظي به. وبدأ استهدافَ سعادتِه في اللحاق بما يحبه ولا يملكه.. وحين كنت أراقبُ سيره في تحقيق طموحاتِه كان أملي يخيبُ دائماً في فشله.. فقد استطاعَ الحصولَ تقريبا على كل ما يريد متأقلماً ببراعةٍ أنيقة مع كل مرحلةٍ يدخلُ فيها.

 

فقد استطاع أيام الجامعة أن يتفوق دون أن يكون ذلك الطالب الذي ينام على الكتب، وأن يكون لديه العديدُ من صداقات الفتيات دون أن تتأثرَ دراسته.. ثم في أيام العمل في الشركات استطاع أن يجمعَ بين الخبرة في العمل المكتبيّ مع المخططاتِ والتقارير وبين العمل الموقعيّ مع المواد والمعدات والعمال، ثم عندما افتتحَ عملَه الخاصَّ جمعَ بين القدرةِ على التأثيرِ على الموظفين بالترهيب والترغيب وبين تأثيرهِ على العملاءِ والملاك وجعلهم يُسندون له العقود تلو العقود كقططٍ وديعة.

لكنه لم يكنْ ذلك الشخصَ الذي يتقنعُ بالرضا حين نال على أيةِ حال ما يريدُه الآخرون ليُظهِرَ سعادتَه بماله وعائلته ومركزه الاجتماعي فقد عرفَ أولاً أن هناك أسباباً كثيرة لن تبقي أيّ شيء على حاله دوماً، أما ثانياً وهو الأهمّ فقد كان يبحث عن سعادتِه الداخلية وكان يراها تتفلَّت منه في هروبها الزئبقيِّ العجيب، وكانت القاعدة الثابتةُ أنه ما إنْ يحقق هدفاً ما ويظنه سرَّ سعادته حتى يسأمَ بسرعة ويعاود الكرة من جديد ساعياً لهدف آخر.. وكأنه يشبه ذلك السائر في الصحراء تحت شمس مُحرقة وهو يظنّ أنه يسيرُ مستقيما إلى وجهتهِ بينما هو في الحقيقة يسير ضمن دائرة كبيرة تعود لتلتف على نفسها دون أن يدري.

وفي لحظة تجلٍّ قال لي إنه بعد أن حقق أول هدفٍ من أهدافه ظنّ أن سعادته اكتملت لكنه عندما لمح هدفاً جديداً أدرك أن سعادته ليست في ذلك الهدف بل في استمرار سعيه تجاه أهدافه.. وعندما ملَّ من مُتتاليات الأهداف ألفى نفسَه يشبه ذلك الحمارَ الذي يسعد فقط بوجود تلك الجزرةِ المدلاة أمامه من العصا التي لا يراها والتي لا يملّ من اللحاق بها.

وبعد استدارة الدائرة عليه.. عندما وجد نفسه في منتصفِ الطريق حيث يتساوى بُعد خطِّ البداية عنه عن خط النهاية بين أحلام اليفاعة وفلاحة حقائق الكهولة.. بزغت من أزمةِ مُنتصف عمره خيوطُ أملٍ لاحتْ فجأةً عندما دعوتُه مصادفة إلى حفلٍ خيري كان منعقداً جوارنا ثم تبرَّع على استحياءٍ إلى طفل فقير معاق ولمح بقوة ذلك البريق في عينيه وحرارة السعادة الحقيقية الثجاجة التي تفجرت منه حين أمسك به الطفل من قدمه قائلاً له دعني أحفظ ملامح وجهك جيدا لأتذكرك عندما أكبر..

وخرج ساعتها بغير الوجه الذي دخل به وبدتْ في ذلك الحين سعادتُه وقد انتقلت من الأشياء الجامدة إلى الأشخاص وكأنه كسب حيوات إضافية إلى جانب حياته وبدت سعادته الذاتية متمثلة في إنكار ذاته وفهمت عندها مقولة إذا أردتَ أن تسعد فأسعد الناس. وكم صرح لي لاحقاً أن هؤلاء الفقراء يمنحونه من السعادة أضعاف ما يمنحه ماله لهم.. وبدلاً من استمراره في سعيه لتحقيق سلسلة أهداف دنيوية غير منتهية انتقل إلى سعيهِ لإحداث بصمةٍ مستمرة في الأشخاص من حوله.

بدا صاحبي هذا الذي كان هلوعا… مُتشحاً الآن بابتسامة الرضا وصار أغنى ما يكون باستغنائِه عن أيِّ شيء كان يعتقد أنه سيُعطيه السعادة مُكتفياً برصيده الأخروي المتنامي كسنابل القمح التي تُؤتي حقَّها يومَ حصادها

ومع انغماسه في لجّة العملِ الخيري بدتْ له نافذةٌ صغيرة فتحتْ له عالماً أوسع وأكبر.. عالماً مختلفاً آخر.. فقد تجاوزتِ السعادةُ لديه بشكل تلقائيٍّ بُعدَها العاطفيّ السابق لتولِّد شعوراً مجهولاً سببُه الاطمئنان لمصيره بعد الموت ولم يلبثْ هذا الشعور بالاطمئنان العاطفي سوى أن تحول إلى قناعة عقلية بعد عملية بحث في فطرتِه وفي الكون من حوله ليصل إلى سبب الأسباب مالك يوم الدين الذي بيده مقاليد ذلك المصير المخيف المجهول وأيقن تمام الإيقان أن سلسلة الأشياء التي كان يلهث في ركضه وراءها لم تكن سوى جرعات مخدر تنسيه ضرورة الإجابة الحقيقية عن ذلك المصير.. 

وبدا لديه الاختلاف الحقيقي بين مفهوم اللذة والسعادة.. بين اللذةِ المؤقّتة التي تُسببها شهوةُ امتلاكِ الأشياء أو التأثير في الأشخاص وبين السعادة الحقيقية المتجلّيةِ في القرب من الله الذي تستشعرُه النفس المطمئنة.

وبدا صاحبي هذا الذي كان هلوعا… مُتشحاً الآن بابتسامة الرضا وصار أغنى ما يكون باستغنائِه عن أيِّ شيء كان يعتقد أنه سيُعطيه السعادة مُكتفياً برصيده الأخروي المتنامي كسنابل القمح التي تُؤتي حقَّها يومَ حصادها:

 فماذا وجد من فقد الله.. وماذا فقد من وجده

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.