شعار قسم مدونات

هل سيغرق الجبل الجليدي سفينتنا؟

Blogs الإنسان

غرقت التايتانيك منذ قرن و5 سنوات تقريبا، وبعيدا عن الغموض الذي حاكته القصص حول غرقها، والأسرار التي غرقت معها، لا تزال قصة الجبل الجليدي هي الرواية المتداولة التي علقت بالأذهان وجعلت من القصة أسطورة كلاسيكية تتناقلها الأجيال، وبعيدا عن هذا وذاك يلح علي سؤال طوال الوقت، يتتبعني كظلي، يشوش على جل أعمالي ولحظاتي، يصيح الصوت بداخلي: هل سنغرق؟ 

ويأتي السؤال بصيغة الجمع دائما، لأن نجاة أي واحد منا كفرد لم يعد شيئا كبيرا مقارنة بالتحديات التي نعيشها اليوم ولا ينبغي لها أن تكون، ولأنني أتتبع التغيرات والظواهر الاجتماعية كما يفعل الجميع وأعكف على تحليلها منذ الصغر على ضوء ما اكتسبته خلال مدارستي لبعض كتب العبقري مالك بن نبي رحمه الله، وكان مما استخلصته أنه لا قيام لمجتمع متماسك ما لم تذب الأنا في النحن بمعناها الإيجابي الفعال فكرا وإنتاجا وتعاونا وتضامنا.

ما الذي قصدته بالغرق وما هو الجبل الجليدي الذي سيغرقنا إن لم ننتبه له جيدا؟ 

الجبل الجليدي الذي سيجعلنا نغرق هو ماديتنا الطاغية و نمطنا الاستهلاكي المخيف وعلاقاتنا الإنسانية الباهتة التي جعلت مجرد التفكير باسم النحن تطبيقيا أمرا غاية في الصعوبة

دعوني أولا أعرفكم على سفينة النجاة الجديدة التي تبحر منذ قرون باحثة عن أرض طيبة لتستقر بها من جديد وتبذر فيها بذرة حضارة إسلامية جديدة، ولا زلنا نبحر، وأمواج الطائفية والتشتت والتقسم تحيط بنا من كل حدب وصوب وعواصف الحروب الأهلية والمجازر تهدر دون توقف، لكن أتدرون؟، ليس هذا هو الجبل الجليدي الذي سيجعل سفينتنا تغرق!

عكس ما يتلى على مسامعنا يوميا من دعاة النهضة والتغيير من أن هذا الأخير لا يأتي إلا بالكرسي، وأن مياه التغيير لن تنحدر إلا من القمة، أرى أن نبع التغيير والتجديد والإصلاح سينبع من القاعدة، من أكثر الزوايا ظلمة ووحشة وغربة، وأكثر الصخور قسوة، ولكن لم أجب بعد عن سؤالي هل سيغرق الجبل الجليدي سفينتنا قبل أن نشهد يوم الانبعاث الجديد والنهضة المنشودة؟ 

صحيح أن المخاض الذي تعيشه الأمة اليوم من أخذ ورد بين الطوائف المختلفة والأحزاب، واصطدام متواصل بين تيار الانفتاح المبالغ فيه والرجعية المتحجرة، والمعركة حامية الوطيس بين الفساد المنتشر كالنار في الهشيم ومحاولات الإصلاح الحثيثة يشرح الصدر يبعث فينا أملا متجددا بأننا سننتصر ما دمنا نقاتل وأن الأفضل قادم وبأن المخاض سينتهي عما قريب معلنا عن بزوغ فجر جديد للأمة رغم صعوبة الوضع الراهن.

إلا أن الجبل الجليدي الذي أتكلم عنه ليس الإلحاد ولا الفساد ولا الجهل ولا حتى الحروب الطائفية والأهلية، بل هو شيء أبسط تركيبة وحجما من كل هذا وأكبر وقعا بالمقابل، شيء لا غنى عنه في الأصل، لولا أن الإنسان ينسى أصله أحيانا، الجبل الجليدي هناك، في قفصك الصدري، جاثم على قلبك.

ذلك الجبل الجليدي الذي تكون بعد أن نسي الأبوان دورهما الأساسي، وجعل جيلا بأكمله يكبر دون أن يفهم لم تتغنى القصائد والأغاني عن الأم مثلا كل هذا القدر؟ أو دون أن يحضنه أبوه مرة واحدة طوال حياته!

الجبل الجليدي الذي سيجعلنا نغرق هو ماديتنا الطاغية و نمطنا الاستهلاكي المخيف وعلاقاتنا الإنسانية الباهتة التي جعلت مجرد التفكير باسم النحن تطبيقيا أمرا غاية في الصعوبة، ذلك الجبل الجليدي الذي يجعلنا نلهث وراء الشهرة و المال، والعلم والجاه حتى نحو النهضة والإصلاح والعمل الخيري لهث الكلاب، وننسى شيئا اسمه أسرة، تلك العلاقات الإنسانية البسيطة التي تعتبر أجمل ما في الحياة، صارت الكلمة غريبة نوعا وتجردت من معناها الحقيقي، ذلك العش الذي صار باردا مع طغيان الأنا، لا يقوى حتى على إيواء متشرد فكريا ونفسيا على الأقل !

فالأبوان غائبان طوال الوقت من أجل لقمة العيش، فالظروف المعيشية صعبة، وتوفير أساسيات الحياة أولى، أما التربية فهو شيء ثانوي تتداول عليه الخادمة الفليبينية والنظام التعليمي المتدهور والشارع المسموم والأنترنت بأقساط متفاوتة. ذلك الجبل الجليدي الذي تكون بعد أن نسي الأبوان دورهما الأساسي، وجعل جيلا بأكمله يكبر دون أن يفهم لم تتغنى القصائد والأغاني عن الأم مثلا كل هذا القدر؟ أو دون أن يحضنه أبوه مرة واحدة طوال حياته!

ذلك الجبل الجليدي الذي ساعد على إنشاء جيل مشوه الهوية مضطرب الشخصية فاقد للمعالم الأساسية. لماذا نقيم المحاضرات والندوات وننظم الحملات المكثفة للتوعية من شرك الإلحاد مثلا، وأسرتنا بيئة مناسبة ومثالية لظهوره ونموه؟ لماذا لا نعالج المرض من المصدر؟ هل سنستيقظ من غفلتنا ونرى معالم الطريق بصورة أوضح، ونبدأ في تشخيص أمراضنا ومشكلاتنا تشخيصا أصح أم أن الجبل الجليدي سيغرق سفينتنا؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.