شعار قسم مدونات

ذاكرة عُمرٍ بين ضوءٍ وانكسار

blogs حزن
أثناء قراءتي لرواية "سنترال بارك" للكاتب الفرنسي "غيوم ميسو" استوقفني اقتباس لجان تاريوده يقول: "يبحث الناس عن الضوء في حديقة هشّة ترتعش فيها الألوان". كان الضوء الأول في حياة كُلٍ منّا الضوء الصادر من كاميرا شريط الذكريات حينما كُنّا في رحم أُمهاتنا، ذلك الضوء الذي سيُرينا الكثير من الحدائق الهشّة (انكساراتنا) كما ترجمتُها أنا، الحدائق الصلبة (قوتنا بعد هذهِ الانكسارات) في حديقةٍ ربمّا في لحظةٍ ما تكون سوداوية بالكامل، أو حتى بيضاء بالكامل.

لكننا لو نظرنا إليها على مرّ السنين بتجمّع الذكريات، الأوقات القصيرة التي جمعتنا مع من كسرونا أو حتى الصُدف التي جعلت منهم أغلى الناس لدينا، ستتلون الصورة شيئًا فشيئًا، ستتلون بالأحمر الذي يُعرف بلون "العاطفة" والأخضر الذي يبني حدائق القلب ويُعمرّها، بالأزرق الذي لولاه لما استطاعت أيدينا أن تُلامس السماء ولا استطاعت أعيننا أن تنحني أمام زُرقة البحر، بالبني الذي يخترقُنا دون حواجز حتى نصل إلى أرضٍ قاحلة لا تعرف عنا شيئًأ حتى أنها تُنكر اسمنا، بالأصفر الذي تشعّ نور الشمس من خلاله ولا يجتنبنا الظلام إلا بغروبها.

سيكون الضوء الثاني، ضوء الأرض، ضوء غرفة الولادة حين وضعتك أُمك، ستخرج لتبكي قليلًا في البداية وحينما تقتحمك الحياة ستبكي كثيرًا ستُصبح إنكساراتك أكبر من قلبك الصغير الذي يوازي حجم قبضة يدك.

ثمة ضوءٍ ثالث يبدأ حينما تبدأ بالمشي على قدميك، حينما تبدأ بالتعرف على يديك، حينما تُميّز رائحة أُمك، حضن أبيك.
ثمة ضوءٍ يبدأ حينما تدخل يومك الأول في المدرسة يقابله انكسار وحدتُك، تلك الحديقة الهشّة الأولى التي ستصادفك حينها، ستستقبل الشتائم من الأطفال الآخرين بقلبٍ حزين مكسور لا يُعاد إلى مكانه إلاّ بحضن أمِّه بعد انتهاء يومك الدراسي.
ثمة انكسار آخر تُقابله حينما تضطر أن تُغادر المدرسة تاركًا فيها ذكرياتك، أصدقاءك الذين بنيت علاقتك معهم بشّق الأنفس، صراع الذاكرة بالمكان الذي يعتريك ولا يُعرّيها.

ثمة ضوء يُبهرك تدخُل عبرهُ إلى الحياة وثمة انكسار يصقلُك، يقوّيك، يجعلُك حكيمًا بطريقة واقعية تعودّتٌ بعد كل هذه الأضواء وكل هذه الانكسارات أن أمنح لنفسي الحق في التخمين، الحق في العيش بضوءٍ لا متناهي وبحديقةٍ صلبة مهما كانت هشة.

ثمة انكسار يبدأ حينما تدخل مدرستُك الثانوية، تركض فيه لاهثًا خلف حُلمك، خلف الحصول على معدلٍ كبير يؤهلك لأن تُصبح طبيبًأ، مهندسًأ، محاسبًأ، محاميًأ، طيّارًا، قائدًا، مُعلّمًأ، رائد فضاء، أي شيءٍ تُريده أنت، حُلمك الذي تراه يكبُر الآن، أنا حينما اقتحمت طفولتي "أهمية العلامات" أدركتُ حينها بأنني كبرت!

ثمة ضوءٍ يأتِ بعد كل هذا، حينما تتخرج من ثانويتك وتحصل على غايتك يُقابلها حديقة هشّة أساسُها تخبطّ القرارت والتحيّر في التخصص الذي يُنقذك من نفسك ويضمن لك مستقبلًا عمليًا زاهرًا، لن تنقشع تلك الغيمة إلا بتخرجك من الجامعة.

ثمة ضوءٍ يأتِ حينما تُثبّت في عملك الأول وانكسارٌ آخر يُلاحقه حينما تكرهه لسببٍ ما.
ثمة ضوءٍ يأتِ عند رعشة القلب الأولى ولا ينتهي غالبًأ إلا بانكسارٍ نعرفه مثلما يعرفُنا.
ثمة انكساراتٍ كثيرة تأتي على هيئة ملاكٍ ويحولّها القدر بمحضّ الصُدفة إلى شبحٍ لا نراهُ إلاّ في فترة اليقظة.

ثمة ضوء يُبهرك تدخُل عبرهُ إلى الحياة وثمة انكسار يصقلُك، يقوّيك، يجعلُك حكيمًا بطريقة واقعية تعودّتٌ بعد كل هذه الأضواء وكل هذه الانكسارات أن أمنح لنفسي الحق في التخمين، الحق في العيش بضوءٍ لا متناهي وبحديقةٍ صلبة مهما كانت هشة، بحديقة ترتعشُ فيها الألوان لا تقدّر بثمن.
ثمة ضوء في آخر النفق ينتظرُك لتقول: "أنا هُنا"، ثمة انكسارٍ أيضًا على سطح هذه الأرض ينتظرك لتقول: "أنا خُلقت كي أهزمك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.