شعار قسم مدونات

دول زائلة.. والموصل باقية

blogs العراق

لقد مرت الموصل؛ عاصمة الإمبراطورية الآشورية، والمدينة الكبرى في العالم تاريخياً، والتي سُكنت منذ الألف السادس قبل الميلاد باحتلالات واستيطانات جمّة عبر التاريخ، إلا أنها ما زالت مدينة محورية ومفصلية في المنطقة، إذ باحتلالها الأول من أهلها الآشوريين – الذين تدل مصادر كثيرة على عودة أصولهم إلى العرق العربي نفسه – من قبل الميديين (الفرس) بالتحالف مع البابليين في جنوب العراق آنذاك، سقطت مدينة الموصل، المركز التاريخي لمحافظة نينوى، فسقطت بذلك أكبر وأعظم إمبراطوريات العالم القديم.

وبالرغم من توالي الاحتلالات الكثيرة الشرقية والغربية للمدينة ابتداءًا بالميديين الفرس سنة 612 ق.م فالأخمينيين الفرس انتقالاً إلى الهلينيين فالسلوقيين الإغريق مروراً بالأشكانيين فالساسانيين الفرس وعودةً إلى الحكم العربي للمدينة إبان الخلافة الإسلامية الراشدية فالأمويين فالعباسيين تحولاً إلى المغول والتركمان، والصفويين الفرس ثم إلى العثمانيين الأتراك انتهاءًا بالنزاع الفرنسي الإنكليزي الذي حسم لصالح بريطانياً بالسيطرة على المدينة في بدايات القرن العشرين، ثم عودة الموصل إلى السيادة العراقية بقرار من عصبة الأمم عام 1925م. 

فإن اللافت في الأمر أن كل هذه الاحتلالات تعاقبت وتنافست على احتلال الموصل حتى بدت لدى الكثيرين متفقة في معارك ما بعد 2003م في الموصل وفي العراق بشكل عام، وما حصل في المعركة الأخيرة لدى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" في الموصل؛ خير دليل على هذا التوافق والاحتلال المزدوج من الشرق والغرب للمدينة ولأول مرة منذ نحو 3000 آلاف سنة.

في اللحظة التي يرى البعض فيها أن الحكومة في العراق تحقق انتصارات واسعة وحقيقية وأنها تعمل على بناء نهضة شاملة بعد الانتهاء من السيطرة على الأراضي العراقية فإن البعض الآخر يرى بأن النظام بشكل كامل في العراق هو شريك أساسي للاحتلال

وبناءًا على ذلك، فكيف تعتبر الحكومة الحالية في العراق أن ما حصل من هزيمة لتنظيم الدولة في الموصل تحريراً كاملاً للمدينة؟ 

إنها ترزح تحت احتلالات فوقها احتلالات، فلربما يكون قد انتهى وجود "دولة الوهم" في الموصل إلا أن الوجود الأمريكي لم ينتهِ بل عُزز بعد الحرب مع تنظيم الدولة، كذلك فإن الوجود الإيراني ما زال باقياً ويتمدد في الموصل والعراق ككل، وأيضاً، فإن قوات التحالف الدولي تلعب دوراً هاماً في فرض وجودها على الساحة العراقية والحرب في الموصل، ذلك بالإضافة إلى المليشيات المتعددة الجنسيات والخارجة عن القانون، والمشكلة الأكبر التي تتصل بهذه المليشيات والتنظيمات هي علاقتها الجيدة مع الحكومة في العراق وشرعنة الحكومة لها بصورة غير منطقية.

 

وفي اللحظة التي يرى البعض فيها أن الحكومة في العراق تحقق انتصارات واسعة وحقيقية وأنها تعمل على بناء نهضة شاملة بعد الانتهاء من السيطرة على الأراضي العراقية واستردادها من "تنظيم الدولة" فإن البعض الآخر يرى بأن النظام بشكل كامل في العراق هو شريك أساسي للاحتلال بل إنه شكل وطرف رئيس من أطراف الاحتلال مثله مثل تنظيم الدولة وغيره من الجهات، فبغض النظر عن دوره السلبي منذ 2003م في تسيير السياسة والمجتمع العراقي فإننا إن نظرنا إلى التعاطي مع أزمة الموصل الأخيرة فإن هناك أطراف كثيرة تتهم النظام بتسليم مدينة الموصل لتنظيم الدولة من دون قتال أو دفاع عن المدينة بما في ذلك شهود من أهل النظام نفسه وأركانه إذ حمّلت لجنة التحقيق البرلمانية العراقية نوري المالكي ونحو30 شخصية سياسية وعسكرية مسؤولية سقوط مدينة الموصل وتسليمها لـ"تنظيم الدولة" في 2014م.

وأبرز ملفات الفساد التي يحملها النظام والحكومة الحالية برئاسة حيدر العبادي على كاهله، إقفال ملف التحقيق القضائي في قضية تسليم الموصل والتي كان قد وافق القضاء على التحقيق فيها بناء على تقرير اللجنة البرلمانية العراقية، إلا أنه جمّدها ولم يعمل بقرارات العبادي بمنع المتهمين بما فيهم المالكي من السفر، بالإضافة إلى مقتل الشاهد الأبرز في القضية النقيب ضابط الاتصالات الذي كان قد قدّم إفادته بما يتضمن إدانة للمالكي ومن حوله من متورطين في القضية.

تذهب التفاصيل في ما يخص "تحرير" الموصل إلى أبعد من هزيمة داعش بمراحل، ونقاط كثيرة، فهناك نحو مليون مهجّر فرّوا من الموصل منذ العام الماضي فقط، وتجدر الإشارة إلى أن أغلبهم بلا مأوى أو طعام أو شراب، ويتجه التخوف الأكبر نحو توطين إيرانيين مكان الأهالي المدينة العراقيين، خصوصاً مع ربط ذلك بالأطماع الإيرانية التاريخية بالمدينة، إذ دخل في نهاية العام المنصرم نحو ثلاثة ملايين إيراني إلى العراق بحجة الزيارة الأربعينية، نحو نصف مليون منهم اجتاحوا الحدود ودخلوا إلى العراق بدون تأشيرة.

 

لقد أحدث النظام في العراق بحربه المزيفة على تنظيم الدولة – إن سلمّنا بتسليمه المدينة لداعش واتفاقه معه – أحدث خراباً كثيراً خفياً وراء تشدقه بالأزمة من جهة وبتحقيقه للانتصارات من جهة أخرى

كما أن الحملة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة دمرت ستة أحياء بشكل كامل بحسب منسقة الأمم المتحدة هناك، وإن تكلفة إعادة إعمار الموصل تبلغ نحو 3 مليارات دولار حتى الآن بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ففعلياً لقد دمرت مدينة الموصل كاملة بكل تفاصيلها وأجزائها والأخطر من ذلك هو محو التاريخ العريق لهذه المدينة وتدمير كافة آثارها تقريباً، وهي الأعرق في العالم وذلك بالتأكيد هو أحد أهم أهداف أي عدو، وخصوصاً الاحتلال الفارسي الموسوم تاريخياً بهذا الفعل.

وإن ربطنا ذلك بتحالف النظام في العراق مع إيران وتسهيل دخول تنظيم الدولة إلى المدينة فإننا نرى بشكل جليّ تحقيق النظام للأهداف الإيرانية الساعية إلى احتلال العراق بشكل كامل، وفرض الوجود الفارسي بكل أشكاله، ومنها محو التاريخ الأشوري والعربي والعراقي.

لقد أحدث النظام في العراق بحربه المزيفة على تنظيم الدولة – إن سلمّنا بتسليمه المدينة لداعش واتفاقه معه _ أحدث خراباً كثيراً خفياً وراء تشدقه بالأزمة من جهة وبتحقيقه للانتصارات من جهة أخرى، فلقد خسر مئات الآلاف من الطلاب ممَن بقوا على قيد الحياة، تعليمهم لثلاث سنوات، كما قد لا يعود جزء كبير منهم للدراسة بعد ذلك، كذلك فإنه يجب طرح السؤال الأهم؛ ماذا قبل "الاحتلال الداعشي" و"التحرير" وماذا بعدهما؟ 

إذ يُتهم النظام في العراق بافتعال الحرب بالاتفاق مع "داعش" للتغطية على إخفاقاته في كل المجالات المجتمعية والعسكرية، منذ مجيئه إلى العراق، ذلك بالإضافة إلى إخفائه وتستره بحربه على "داعش"، وظهوره بصورة البطل بانتصاره فيها؛ على عمليات اعتقاله لآلاف المدنيين وتعذيبهم في السجون وقتلهم لمدنيين آخرين بالتواطئ مع المليشيات التي تعمل على مرأى منه بحجة مخالفة آرائهم أو عقائدهم.

في النهاية فإننا إن وصلنا إلى نتيجة أن النظام في العراق سلّم الموصل لداعش وسهّل له عملية احتلالها؛ من هروب بدون قتال وترك لأسلحة الجيش ومعداته وعرباته هناك، مع ربطٍ لذلك بتصريحات الولايات المتحدة المتفقة والمتحالفة مع النظام في العراق بصناعتها لداعش، وليعود جيش النظام ترافقه مليشيات أخرى فيما بعد لمحاربة داعش طوال عامين وربما أكثر، فإننا نخلص إلى أن "داعش" كان طوق نجاة للنظام في العراق، منذ ظهوره هناك:

 

إن "داعش" كان طوق نجاة للنظام في العراق، منذ ظهوره هناك لتهجير أهالي الموصل الذين هُجّر منهم حتى الآن نحو المليون مواطن وتوطين الثلاثة مليون إيراني مكانهم

أولاً: للتغطية على ملفات فساده التي خرج الناس لكشفها في مظاهرات عارمة منذ 2011 وحتى ظهور داعش، مطالبين النظام بالرحيل والكف عن الفساد والنهب والانفلات الأمني والسماح بالتدخلات الأجنبية في العراق.

 

ثانياً: تحقيق أهداف النظام بالقضاء على المقاومة العراقية الشريفة التي حاربت الاحتلال منذ قدومه إلى العراق 2003م بخلطها مع داعش، وها هو النظام يثبت ذلك بتصريحاته الأخيرة عن نيته الذهاب بعد الانتهاء من الموصل إلى القتال في تلعفر والحويجة والأنبار الخالية من "داعش"، والمعروفة بتواجد عشائر مناصرة "للمقاومة" فيها.

 

ثالثاً: محاولة اكتساب النظام للأقليات كالأزييديين والمسيحيين وغيرهم من خلال محاربة التنظيم لهم.

 

رابعاً: تهجير أهالي الموصل الذين هُجّر منهم حتى الآن نحو المليون مواطن وتوطين الثلاثة مليون إيراني مكانهم، والقائمة تطول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.