شعار قسم مدونات

دعوَة للإلحاد أم عليه؟

مدونات - رجل
أطلّت علينا أمواج الإلحاد العاتية في حرارة هذا الصيف تزيدُه بهاءً.. من ذا يكرهُ الماء البارد في عزّ الحر؟ يُلاحظ المتّبع للطرح الإلحادي العربي اليوم عند منتقديه حماسة شبابية شديدة للدفاع عن الدين واستحقار دعاوى الملحدين العرب بعد ظهور فساد منهجهم وانحلاله من خلال مجهوداتٍ جبارة قامت بها جهات مختصّة وأخرى غير مختصة، وإن كانت غير كافية إلى الآن لاستئصال جذورٍ بدأت التعمّق في المجتمع العربي المسلم. غير أن تلك الحماسة لم تكُن حسنات كلها، فقد تجد من يغار على الدين في زعمه فيهيج ويصول ويجول ويجادل بغير علم ولا هدى! وأقصى ما يملكه المسكين هو مخزون ديني من أيام المتوسط، ومنشورات من هنا وهناك عن كاريكاتير الإلحاد، بعض المواقف المضحكة لملحدٍ أو اثنين.. ثم تجده يخرج بصدرٍ مشدود وينهال على كل من اشتمّ فيه رائحة الإلحاد بسهامه المعوجّة:

– يعمّم فيجعلُ حالة نفسية معينة لملحدٍ معيارا يزن به كل من سواه.
– يسبّ بالزندقة في غير موضعها دون إدراك لعظمة الكلمة التي تفوّه بها، وهو يحسبُها هينة مثلها مثل أي كلمة سب.. هذا مع عدم مراعاة الهدف من إقحامها في الكلام أصلا!
– يردّ على السؤال الوجودي بالاحتقار والتصغير كأنّه قد علم كلّ جواب فيها، دون تمييز بين باحث عن الحقّ يطرحُ سؤالا وبين باحث عن الضلالة لا يريد إلا التفتيش عن زلّات المؤمنين وجذبهم للوكر الإلحادي العفن ليخرج على شعبه بـ(سكرين شوت) استهزاء: انظروا إلى هذا المؤمن الجاهل لا يفهم ألف باء وجود!

اعلموا أن الله تعالى لن يحاسبكم على الملحدين الذين تكبّروا فحاولوا تغطية نور الشمس بغربالهم الأعوج، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولريحُ الجنّة تشتمها بصيام يوم خير لك من دعوة لا قائم لها ترديك المهالك وتقذف في قلبك الشك.

أكتفي بهذه الثلاثة وقس على شاكلتها ما تبقى.. إن كنت -مرة أخرى- من المتبعين للطرح الإلحادي على شبكات التواصل، فلعل الكلام أعلاه قد ذكّرك بشيء مألوف. نعم، ذلك هو أسلوب أغلب الملحدين تماما! هم كذلك يعممون دون فهم، يميزون دون ميزان صائب، يرمون الأحكام جزافا ويتنطعون للرد على كل من يسمي اسمه مسلما.. ويالسواد ليله إن كان سلفيًا! لكنهم يختلفون عن المؤمن بكونهم يفتقدون سقفًا للسباب والشتائم، فذلك المسكين الذي ينافح عن دينه بدرع مثقوب قد يردّه الوازع الأخلاقي عن التفوه بما لا يصح من اللفظ أحيانا، لكن من ذا يقنع جاحدًا بالإله أن يكفّ عن الفحش؟ كما قال دوستويفسكي: إذا لم يكن هناك إله فكل شيء مباح!

أن تعرف موطن الخلل في صفوف جيشك أدعى لنصرك، وأحصن لجندك، لا يمكننا مواصلة البناء لنجد عن أيماننا وشمائلنا معاول من صفّنا تدينُ بما ندين به تدكّ معاقلنا جهلا وهي تحسب أنها أحسنت صنعا! كثيرًا ما علّقت على فئام من المتحمسين الجدد للرد على الملحدين وحذّرتهم من الارتماء في مجموعات الملحدين بدعوى -إقامة الحجة عليهم-، فيجيبني بعضهم أنه يستحيل أن يدخل قلبه شيء منهم لأنهم ضعفاء ونحن على الحق!

عجبا! نحن نتجنب تلك المجموعات ونحاول تحصين أنفسنا بأكبر قدر ممكن من العلم ومع ذلك نخشى أن يقلّب الله قلوبنا بين عشية وضحاها ونسأله الثبات.. فما بالك لو دخلت بيت قطّاع الطرق متفاخرا أنّك تاجر محنّك.. أتضمن نفسك؟ ونتيجة لهذا التهوّر، تجد المؤمن يفقد هويته تدريجيا، ويبدأ في اتخاذ موقف متذبذب لا تكاد تميّز معه هل هو مؤمن حقّا لما تجد في كلامه من تنكّر لأصول الإسلام على حساب الدعوة المزعومة، فإمّا أن يميع الدين ليتناسب مع أهواء (الإخوة الملحدين) ويبين لهم أنه دين الورود والزهور وجئناكم بالحُب والمربى.. أو يقدم صورة مشوهة عن الدين يراها الملحدون في شخصه كأنّه هو المتحدث الرسمي باسم الإسلام! فما يزيدهم ذلك إلا عتوّا وتكبرا.

ذكرتُ في بداية المقال ثلاثة أمثلة بسيطة مجملة عما يقوم به المؤمن المتحمس من ممارسات خاطئة في محاولة الرد على الملحدين لإبطال مزاعمهم، فما هي الأخطاء التي قد يقع فيها مؤمن يريد (إثبات صدق دينه وقوته)؟ سأعطي ثلاثة امثلة مجملة للتوضيح:
1- استخدام الخطاب العاطفي الوعظي: وعيوب هذا الأسلوب أمام الملحدين معروفة رغم فساد بنية طرحهم، فمن المعيب أن تجهل/تتجاهل الخلفية المعرفية لمخاطبك فتحدثه بما لا يقرّه أصلا! فهل تثبت الدّين بالدّين؟ إذًا قمت بالدور الممتنع وغالطت نفسك!

2- القفز إلى إثبات مالم تثبُت مقدماتُه وأصوله: مثل من يجادل ملحدًا في صحة حديث نبوي ليثبت له أنه رسول الله، فيجادله الآخر أنه متناف مع العقل والمنطق، ثم يحتدم بينهما الجدال ليأتي الملحد في الأخير ويقول إن الله أصلا غير موجود والقرآن تأليف بشري.. ويعودون إلى مقدّمات كان يجب إثباتها قبل الانتقال إلى موضوع النبوة كإثبات وجود الله وضرورة إرسال الرسل وهكذا، وإلا لزمَت السفسطة وضياع الأوقات وفسد منهج الاستدلال ليدور الجميع في حلقة مفرغة!

إذا دخلت صفوف الجدال ما زدت المؤمنين إلا خبالا وخسارة وفعلتَ ذات الشيء بنفسك، فلا صلَحتَ ولا أصلحت! نعم من الجيد أن تتحمس للدفاع عن دين الحق وتذبّ عنه بكل ما أوتيت من قوة، وإخوتك كلهم في حاجة لحماسك.. ولكن فرّغه في التعلم إن كنت محبّا حقا!

3- إثبات الدين بمصادر فاسدة: ومن ذلك الاستدلال بعقائد المعتزلة والإباضية والمبتدعة وغيرها ممن ظهر عوَر منهجهم إما جهلا أو قصدًا، فكانت إقامة البينة بهم في المواضيع الشرعية مدعاة للنقد وعرضة لاستغلال ثغراتهم لمحاربة إسلام هلاميّ متخيل (فزاعة قش).. ولطالما أدت هذه الاستدلالات ببعض المؤمنين الذين لاعلاقة لهم بهذا أو ذاك أن يتعرضوا للشك في اعتقادهم ويطرحوا تساؤلات عجيبة على مسائل ما أنزل الله بها من سلطانٍ حسِبوها من دينهم!

أيها الشباب، اعلموا أن الله تعالى لن يحاسبكم على الملحدين الذين تكبّروا فحاولوا تغطية نور الشمس بغربالهم الأعوج، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولريحُ الجنّة تشتمها بصيام يوم خير لك من دعوة لا قائم لها ترديك المهالك وتقذف في قلبك الشك.. فإن لم تفعل كان أقلّ تأثيرِها أن تلهيك عن الطاعات أو تمنعك عنها!

لم تتعلم ما يكفيك لتحصن نفسك أولا ودعوتك ثانيا فقعودك خير من خروجك، ولو دخلت صفوف الجدال ما زدت المؤمنين إلا خبالا وخسارة وفعلتَ ذات الشيء بنفسك، فلا صلَحتَ ولا أصلحت! نعم من الجيد أن تتحمس للدفاع عن دين الحق وتذبّ عنه بكل ما أوتيت من قوة، وإخوتك كلهم في حاجة لحماسك.. ولكن فرّغه في التعلم إن كنت محبّا حقا! وفي التفقه إن كنت مخلصا حقا، فإن أتممت ذلك وعلمت ضوابط المحاججة والمناظرة كنتَ أهلا لخوض غمارها.. وبأمثالك يكتب النصر، فاحذر أن تكون داعيًا للإلحاد والكفر وأنت تحسب دعوتك عليه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.