شعار قسم مدونات

أغدا ألقاك بالموصل؟

blogs - علم العراق
العالم ينقسم يا صديقي وأنت هناك في الضفة الأخرى، لا أحد يحمل سلامي إليك غير تغريدة مقتضبة تاهت بين ملايين المنشورات والثرثرة المتكررة حول ما يحدث في بلداننا، ما دخلنا نحن في السياسات العالمية والعلاقات الديبلوماسية والبروتوكولات والأزمات البيندولية، حمامة طارت في طنجة وأخرى حطت في القيروان والريح تنفخ في إناء قديم كان قد أعطاه راع بدوي لتاجر ضمآن مر بالصدفة من الحدود اليمنية السعودية.
 
لا يهمني هنا ولا يهمك هناك أن ترش العطور على بدلة الرئيس ليصعد المنبر ويخطب في الناس أمام الكاميرا  "أن أبشروا فنحن ندين وندعو ونستنكر"، ولا نأبه كلانا بعزف النشيد قبل استقبال بعثة لا تحمل الأحلام للفقراء، رؤانا مشتركة وبشرتنا متشابهة ونكاتنا تكرر من المحيط إلى الخليج، ماذا لو تزوج المريخ الزهرة؟ لن ينجبا أغرب من عالمنا المشتت، عالمنا العربي الصغير الذي مد ظهره للطعن وأغمد ماء الوجه في قنينة فخمة صنعت في روسيا وجلبت من الصين.
 

أصبحت أدرك أن العالم رجل مسن جثى على ركبتيه من هول الصداع والناس بثور عفنة غطت جسده المنهك، وأن الأرض ما زالت تتّبع مسارا قديما ملتويا وتحمل أثقالها من أوتاد رواسي وعباد ساحوا في الأرض وملؤوا البلدان ضجيجا مزعجا.

أقرأ يوميا الصحف التي تخصص معظمها ملحقا للقضايا الدولية تتصدره في أغلب الأحيان "أخبار المنطقة" كما يقولون، بين سورية المخذولة والعراق المكبل أقلب ناظري بين الورقات فلا أرى غير كلمات صماء بخيلة لا تنسُب الحق لأصحابه ولا تنبئ بفأل ينبت الفجر على عتبات المساء، في الملحق أيضا حوار طويل ثقيل مع باحث في الجماعات واللوبيات والاستراتيجيات والسياسات يخلط بين الماضي والآت، يتحدث فيه عن داعش وعبارات أخرى بليدة كالتوحش والتفخيخ والتشدد، لم ألق بالا لما قال غير أني توقفت عند اسم لطالما ارتبط بالحلم السخي الذي يسقي الآمال كلما شاحت، شذاه يرفل في الأرواح المنثورة بين حدود "دول المنطقة"، ذلك الاسم شدني كما تفعل أغاني الست في مسافر يرتاد الباص من عنابة إلى طبرقة، أم الربيعين "الموصل" تاج العراق، أذكر أن ذلك الخبير تحدث بإطناب عن بداية داعش وسيطرته الأولى على مدينة الموصل وكيف صار الموت ظلا مخيفا يجول بين الثنايا.
 
طويت الصحيفة بتكاسل بليد وكتبت على ظهرها "معللتي بالوصل" ثم محوتها قبل إكمال المعنى وكتبت مجددا "أغدا ألقاك بالموصل"، أذكر جيدا أني لم أغرم بأغاني الست إلا حديثا حين أصبحت أصغي لروائعها بعد أن كنت أستمع لها لمجرد الاطلاع، قال أبي يوما متحدثا عن كوكب الشرق: "يسلم هاك الصوت" فقاطعه جدي بأغنية منسية عديمة الانتماء تنسب للمجهول "يا مبعد بغداد في الشرق المقصي"، لم أكن أدرك يومها الإتجاهات ولا المسافات ولم أعلم بعد أن عالمنا مجزأ، كنت أعتقد أن الأرض تنبت القمح والحب والأمنيات حتى صرت أرى وجه موطننا الحزين مرسوما على الشاشات وواجهات الصحف يبكي مجده الآفل مندوب المُحيَّا.
 
أصبحت أدرك أن العالم رجل مسن جثى على ركبتيه من هول الصداع والناس بثور عفنة غطت جسده المنهك وأن الأرض ما زالت تتّبع مسارا قديما ملتويا وتحمل أثقالها من أوتاد رواسي وعباد ساحوا في الأرض وملؤوا البلدان ضجيجا مزعجا، الأمر يتشابه من الخرطوم إلى نواكشوط ومن طرابلس إلى المنامة.

أكتب لعل أخا لي ألقاه الزمن بعيدا يقرأ نصي هذا فيبتسم وينظر إلى السماء، سأنظر إليها مبتسما وإيماني أن نورسا يطير بين الإسكندرية وبيروت باحثا عن طعام لصغار عشه فوق سارية قارب قديم.

أقرأ أحيانا ثرثرة البعض في بلدي كما نقلتها إحدى الصحف المنتشرة في المقاهي والأرصفة والمحطات المكتضة "نحن نحتج على القطار الذي حل متأخرا، ونلعن ساعي البريد الذي نسي أن يوصل الطرود المهمة، ونسب سائقا متهورا لم يمتثل لإشارة المرور حتى كاد يقتل كلبا سائبا، والعالم من حولنا لا يأبه بكل هذا، نحن جزء غير مرئي"، فعلا نحن تفصيل دقيق والأرض جزئين، جزء لنا وجزء للبقية، لكن مازلنا ننتظر أن يكتمل وجه العالم قبل نفاد الرصاص المعد للحروب الدامية.

أكتب اليوم لعل أخا لي ألقاه الزمن بعيدا يقرأ نصي هذا فيبتسم وينظر إلى السماء، سأنظر إليها أيضا مبتسما وإيماني أن نورسا يطير بين الإسكندرية وبيروت باحثا عن طعام لصغار عشه المبني فوق سارية قارب قديم رسى شوقا على شاطئ غزة، سأنتظر ميلاد الطيور على مشارف الغد وأبذر طعامها كي لا تهاجر جوعا، إلى ذلك الحين سلاما صديقي، تقبل سلامي المرسل وأجب "أغدا ألقاك بالموصل"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.