شعار قسم مدونات

دِرهمٌ من الشعب

blogs - شباب مصر
كتب شيخُ اللغة العربية الأديبُ الأريب والبليغُ الحجةِ، الناقدُ البصير، مصطفى صادق الرافعي فصلاً في كتابه (حديثُ القمر) عن رجلٍ بدرهمٍ من الشعب يأتي بهِ اللهُ ليُتمِّم ما نقصَ من هذا الشعب، وعَدَّدَ خِصال وفِعال هذا الرجل، وذكر من علامات الزمن الذي يسبِقُ مَقدمه ما ذَكَر، وتنبَّأ بما هو كائنٌ فيه من أحداثٍ جِسامٍ يُقدِّرها اللهُ أن تحدُث لا لظلمِ هذا الشعب، وإنما لتُمهِّد لإعصارٍ هادئٍ يعقِبُ ظُهوره. كتب ذلك قبل قيام الثورة المصرية على الحكم الملكيِّ بأربعينَ عاماً تقريبا، كانت خلالها الحالةُ السياسية والاجتماعية والمعيشية في مصر تلتهبُ التهابا، وتمور الأمورُ مَوْرا، حتى إذا فار التنُّور وقُضيَ الأمرُ، فإذا بالشعب يثورُ وينتفضُ على حُكَّامه.
وما يهمنا ويشغلنا في مقالة الرافعي البليغة تلك وغيرها من المقالات هو وصفُها الدقيقُ للأحداث التي تمهِّدُ لظهور هذا الرجل المتمِّم كما أشرنا، ووصفها الدقيق لخصاله وأفعاله. وأن نُنبِّه على أن الوقتَ قد حان لخروج هذا الرجل وأن الأوانَ أوانه والموعدَ موعده، أو هكذا نظنُ. فالرافعيُّ حين يصفُ ذلك الزمن يقول:

(اُنظر .. أتَرى ثمَّةَ شعبا مستعبدا يجتمعُ كما تتراكم الأنقاضُ ويتفرَّق كما تتبدَّدُ وليس له في الاجتماع والتفرق إلاَّ صورتانِ للخراب كالبومةِ والبومة في التشاؤم! إنك لتنظر الشعب الذي يحلم وهو مستيقظ؛ ألا تراه يعمل على السُّخرة ويُطيع بالإرادة أو بالوهم الذي صار له كالإرادة، ويَشكُّ في أنه يخاف من المستبدِّ أو يخاف من أن يشكَّ فيه، ويرجوا على قوَّته ما يرجوه الأجيرُ أن يملك يدهُ ساعةً ليتناول بها لُقيماتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه وأن ينتهي عملُ يومه ليوقن أنه إنسانٌ كالناس له يدٌ يملكها!

فأنا إن كتبتُ، فإنما أكتب لأتعجَّل قيام هذا الرجل من غمار الناس، ليُنقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل، وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتْرٍ منها شريك.

هذا دأبُ الاستبداد ودأب الشعب الضعيف الذي اُبتلي بالنقص عن مكافأة المستبدِّ به ومساواته؛ وكثيرا ما لا يكون هذا النقص فيه إلا بمقدار درهمٍ واحد من الفضة التي نزلت عن مقدار الذهب. ولكن أين هذا الدرهم المتمِّم؟ درهمٌ واحد من الشعب يكون الشعب كله ويجعله مالكاً بعد أن كان مملوكاً، وحاكما بعد أن كان محكوما، ويُخرجه في التاريخ من رتبةٍ إلى رتبة. هذا الدرهمُ هو الذي يَبقى في يد الدهر حتى يجيء يوم الحساب الذي وُعِدَتْ به الحرية المظلومة للانتصاف من ظالميها فيُعطِيَه الله للشعب، ولا يكون إلا رجلاً ولكنه رجلٌ إلهي). انتهى كلامه يرحمه الله.

ثم بعدها بثمانيةٍ وعشرين عاماً كتب العالم الشيخُ الجليل العارفُ باللغة الثاقب النظر في أسرارها ومكنوناتها الأستاذ محمود محمد شاكر مقالاً بعنوان (الإصلاح الإجتماعي) و نُشر في مجلة الرسالة عام 1940م، تحدَّث فيه عن أن الإصلاح الإجتماعي متوقفٌ على ظهور رجل ينبعثُ من زحام الشعب المسكين الفقير فقال :(إنَّ عمل الإصلاح الآن موقوفٌ على شيءٍ واحد، على ظهور الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم يحمل في رجولته السِّراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوبُ في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة "الإنسان").

وكتب بعد ثمان سنوات من مقاله السابق مقالا بعنوان "لمن أكتب" قال فيه (لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحسُ الآن من سِرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو : أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنينٌ لم يولد بعد سوف يُقدَّرُ له أن يقرأني، ولستُ على يقين من شيء إلا أنَّ الذي أدعو له سوف يتحقق يوما على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خُلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورَّع أهلها عن الجور والبغي في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء – وهو العلم).

وقال في مكانٍ آخر من المقال (فأنا أكتبُ لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضا صالحة تُنبتُ نباتا طيباً)، ثم ختم مقالته فقال (فأنا إن كتبتُ، فإنما أكتب لأتعجَّل قيام هذا الرجل من غمار الناس، ليُنقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل، وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتْرٍ منها شريك).انتهى كلامه يرحمه الله.

ما أصبر هذه الشعوب على طُغاتها المستبدين بها كل تلك السنين والأيام، وما أحوجنا اليوم وليس غد إلى بعث هذا الرجل الإلهي الدرهمي وظهوره ليُخرج الناس من رتبةٍ إلى رتبة، ويُعيد الناس إلى فطرتهم التي خُلقوا عليها، وإلى غايتهم التي من أجلها استعمرهم الله في أرضه.

فإذا كان الرافعيُّ قد تحدث عن ظهور هذا الرجل الإلهي الذي يُنقذ هذه الشعوب المهضومة في حقوقها، والمسلوبة الإرادة والحرية منذ عام 1912م، ثم أتى من بعده صديقه ونصيره في رأيه الأستاذ محمود شاكر ليؤكِّد هذه النبوءة ويبشِّر بقرب حدوثها منذ ما يقرب من أربعةٍ وسبعين عاما، وبعد ثمانية وعشرين عاما من كتاب الرافعي، ثم أردف بمقال آخر له بعد مضي ثماني سنوات من مقاله الأول ليُعلن أن الزمن زمنه وأن الأوان أوانه وأن الأرض قد تهيأت لظهوره، وكان ذلك في شهر مارس من عام 1948م، لتأتي بعدها بأربع سنوات فقط ثورة 23 يوليو 1952م.

ولوهلةٍ ظنَّ الأستاذُ شاكر أنَّ ذلك الرجل الدِرهميَّ قد ابتعثه الله من مَرقَدِهِ وأقامَه، وأنه قد تجسَّد في زعيم الثورة (جمال عبدالناصر)، وما لبثَ أن خابت ظنونُ الأستاذ شاكر كما خابت ظنونُ كثيرٍ من الناس، فتقهقر وانكفأ كما تقهقروا وانكفأوا. فما أشبه اليوم بالأمس وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه ثورة الأمس بثورة اليوم، وما انقلاب اليوم ببعيدٍ من إنقلاب الأمس، وما أشبه خطأ الأمس بخطأ اليوم، وإذا بنا نعيد نفس الكرَّة، وإذا بنا نعود كالعرجون القديم من حيث ابتدأنا.. وما أصبر هذه الشعوب على طُغاتها المستبدين بها كل تلك السنين والأيام، وما أحوجنا اليوم وليس غد إلى بعث هذا الرجل الإلهي الدرهمي وظهوره ليُخرج الناس من رتبةٍ إلى رتبة، ويُعيد الناس إلى فطرتهم التي خُلقوا عليها، وإلى غايتهم التي من أجلها استعمرهم الله في أرضه، ويقيم القسط بين الناس، وينشئ حضارة للإنسانية جمعاء عنوانها السلام، ويطمس الحضارة الوحشية التي لا تعترف إلا بمبدأ القوة والمال.

فهذا قرنٌ من الزمان مضى منذ أن تنبأ الرافعي بنبوءته، فهل ضنَّت الأمة الإسلامية أن تُخرج لنا رجلا هذه خصاله وهذه فعاله؟ وهل بلغ بها الخنوع مبلغه الذي لم تعد بعده قادرة على رفع رأسها في وجه من يسومها العذاب، و هل آن أوان خروج هذا الرجل؟ وهل هذا هو الوعد الذي وُعِدت به الحرية لتنتصف من ظالميها؟ وهل قضت السماءُ بحكم من أحكامها ليخلق الله بين جنبي ذلك الرجل قلبا هو المعنى المتجسم من ذلك الحكم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.