شعار قسم مدونات

هيَّ أَشياء لا تُشترى

مدونات - مقيد
هذا النَصُّ سَيبَدأ في أَيِّ لَحظةْ، سَأَتَحَدَثُ في أَيِّ لَحظَةٍ الآنْ، هذا النَصُّ سَيبَدأ في أَيِّ لَحظةْ، سَيحدُثْ، سَيقتَِلِعُ نَفسَهُ مِنْ عِزِّ تجلياتيْ، سَيَخرُجُ لَهم كيفما كان مَزاجُه، وأَنا لَنْ أُحاوِلَ عَرقَلَتهْ؛ مِِنْ بابِ الإِنصافْ، سَأَدَعُهُ هَذِهِ المَرّةْ يَلعَبُ على الوَتَرِ الحَساس، ويَرقُصَ فَوقَ تَرَهُلِّ القَتَلةْ، سَأَدَعهُ يَتفوه بِكلماته الأولى، ويمشي حرفَهُ الأَولُ لِأَعصابِهم، ولو كان أرعناً وغيرَ متمرسٍ وجاهِلٍ أَيضَاً؛ فالجَهلْ في الشيء أَحياناً أَبلَغُ أَسفاراً مِنْ العِلمِ فيهْ، وكَمْ مِنْ العميانِّ أَبصروا ما أَربَكَ كِبارَ المُبصرينْ!

إِنَّ الفَنَّ لا يَدَّعي المَعرِفَةْ، ولا يُقنِعُكَ أَنَهُ يَستَطيعُ إِخضاعَ العاصِفة؛ هوَّ يَدعوكُما لِلعشاءِ سَويَّاً، يُغريكُما بِساحَةٍ فارِغة إِلّا مِنْ الموسيقى، ويَجعَلُ كُلَّاً مِنكُما كَميناً لِلآخَرْ. أَلَم يَكُنْ (ابراهام لِنكولن) مَنْ قَالَ أَنَ أَفضَلَ وسيلة لِلقَضاءِ على عدو هو أَن تَجعَلَهُ صَديقاً. لاحِظْ أَنَهُ لَمْ يَقُلْ عَشيقاً، وَهُنا بالتَحديدْ منطَقة نفوذ الفَنْ، تِلْكَ الحافة المُتَطَرِفةْ، والتي تَقَعُ عِنْدَ نِهايةِ العالمْ.. بالنِسبَةِ لَكَ على الأَقَلْ، هوَّ لَيْسَ عَسكَريّاً، ولا يَربِطُكَ مِنْ عُنُقِكْ، لا يشوّحُ بِأَسلِحَتَه في وَجهِك، هوَّ يَترُكُ شَأنَّ الأَلَمِ لِأَقدَرِ الناسِ على تَخصيبِهِ فيك أَو لِإِخصابِكَ بِهْ: إِليكْ.. مَعْه أَنتَ السَجّانُ، والسَجينُ، وحَدُّ المِقصَلةْ. عَلَيكَ أَنْ تَعتَرِفَ لَهُ بِحذاقَتِهْ في إِبقاءِ يديهِ نَظيفَةً مِنْ دِماءِكْ، فَلَطالما كانَ الفَنُّ امرَأَةً جَبّارةْ عامِرةْ بِالإِثارةْ، أَنيقَةً، تَرتدي صَمتَها وكلامَها وأَوجاعنا وتَعشَقُ، كَمْ تَعشَقُ خَلْقَ الفَوضى!

كَيْفَ يُمكِنُ أَنْ تَلومَ الظالِمَ، والشَعبُ يحتاجُ أَحَدَاً ليستَعبِدهْ؟ لا. لا! لا، لَمْ تولدوا أَحراراً، هُم فَقط احتاجوا إِخباركم بِذلِكْ، فالدِكتاتوريّةْ لَمْ تَعُدْ تَستَطيعْ أَنْ تَقِفَُ على أَقدامِها، ولَمْ تَعُدْ تَمشي عاريّةً على المَلَأ، أَجبَرَها الإِعلامُ أَن تَحتَشِمَ أَمامَكُمْ.

حاسِبْ، تُحَرِرُكَ مِنْ عبوديتهمْ، فَقَطْ لِتستَعبِدَكْ، تُخرِجُكَ مِنْ علاقَةٍ تؤلِمُكُ لِأُخرى تُؤلِمُكْ، الفَرقُ الوَحيدْ بينَّ كِليهِما أَنَّكَ تَختارُ السُمَّ الذي تُفَضِلُهْ، وفي أَوطانِنا العَربيةْ هذا أَمرٌّ يستَوجِبُ الإِحتِفالْ حَقَّاً! العُبوديّةُ في اسمِك، وفي قوميَّتِكْ، في الآراء السياسية، تِلْكَ التي لا تَتَوانى أَنْتَ عَنْ خِدمَتِها كَعَبْدٍ جيدْ، تِلْكَ المبادِئ التي تَظُنُّ أَنَّكَ تَبَنيتَها، في حينِ أَنَها مَنْ تَبَنَتكْ، سُجِلتَ باسمِها قَبْلَ أَنْ تَشهَدَ أَوَلَ شُروقِ شَمسْ لَكْ. فَمَتى تَسنى لَكَ الوَقتُ لِاختيارِها.. لاختِبارِها وكَمْ أَخذتَ مِنْ الوَقت حَتّى تُعلِنَ ولاءَكْ لشيءٍ لا تُمييزُ بدايته مِنْ نهايتك؟

العُبوديّةْ في صوتِكْ، عِنْدَما تُدافِعُ عَنْ شيءٍ لَمْ تُكَلِفْ نَفسكَ حَتّى بالتَفكيرِ فيهْ، ولَو كانَ صوتُكَ هامِداً، يَمشيْ بِجَنبِ الحيطْ. العُبوديَّةُ فيما قالوهُ لَكْ، عَنْ الأَشياء قَبْلَ أَن تراها، والبِلادْ قَبْلَ أَنْ تَزورَها، وعَنْ الأَشخاصْ قَبْلَ أَنْ تَلتَقيهِمْ.

وَكَمْ يُضحِكونَنيْ حينُّ يحاولونَّ إِقناعَ الجَميعْ بِأَديانِهم، بِمذاهِبِهم، وكَيْفَ يَنزِلُ هؤلاء العمالِقةْ مِنْ خُلوَتِهم حَتّى يُفَسِروا لِلجاهِلٍينَّ مِنا عَظَمَةَ صُدَفِهم! مَجنونٌ هوَّ مَنْ يُحاوِلُ تَكذِّيبَ أَنَّ الصُدفةْ اشترت 99 بِالمِئة مِنْ أَرصِدَةِ عُمُره، مِنْ مُعتَقَدِه، فَكَيْفَ يُمكِنُ لَهُ أَنْ يَطعَنْ بِأَوَلِ حَقيقَةٍ تَعَرَّفَ عَليها؟ أَكادُّ أَتَقَلَّبُ على ظَهريْ مِنَّ الضَحِكْ، أَفَلا تَجِدُّ الأَمرَ مُريباً أَنَّ مُعظَمَهُمْ يَبحَثونَّ في الأَديانِ والشَرائِعْ فَقَطِ لِيعودوا لِمَسقَطِ فِكرِهم؟ لَهّوكَ جِدَّاً حِيْنَ بَلَّغوكَ أَنَّ (حَنينهُ أَبَداًّ لِأَوَلِ مَنزِلِ)، وسَهوا عَنْ إِعلامِكَ أَنَّ كُلُّ ما وُلِدَ عَلَيْهِ الفَتى.. سَيَلحَقُ بِهِ عاجِلاً عَنْ آَجِلّاً!

وَلَكِنْ، كَيْفَ يُمكِنُ أَنْ تَلومَ الظالِمَ، والشَعبُ يحتاجُ أَحَدَاً ليستَعبِدهْ؟ لا. لا! لا، لَمْ تولدوا أَحراراً، هُم فَقط احتاجوا إِخباركم بِذلِكْ، فالدِكتاتوريّةْ لَمْ تَعُدْ تَستَطيعْ أَنْ تَقِفَُ على أَقدامِها، ولَمْ تَعُدْ تَمشي عاريّةً على المَلَأ، أَجبَرَها الإِعلامُ أَن تَحتَشِمَ أَمامَكُمْ، أَنْ تَرتَدي لَكُمْ شيئاً واسِعاً، فَضفاضاً يُخفي تَحتَهُ طَبيعَةْ تَطَلُعاتِها، أَن تَختَرِعَ لَكُم خِطاباً زاهياً.. مُلَوَناً يُلوحُ مِنْ بَعيد، وأَهَمَ مَا في الأَمر، أَنْ يَظَلُّ بَعيداً! لا تَظنوا، ولَو لِلَحظة أَنَّ الأسلِحَة النَوَويّةْ هيَّ بطاقتهم المُباغتة، المُخَبأة والتي سَتَحسِمُ الأَمرْ…كانَ وما زَال الأَمَلُ المَزروعُ فيكُمْ هوَّ أَخطَرُ الأَسلِحَة، فَمنْ يُشابِهُ في سَطوَتِه، في هِندامِه…مَنْ يَتفوقُ على الأَمَلْ ذَلِكَ الذي يُقَدَمُ على أَيِّ طَبَقٍ كانْ ويَبدو شَهيّاً!

وَ لَنْ أُسامحَ الرئيس الأَمريكي (جون ف. كينيدي) على مَقولَتِه الشَهيرة: لا تَسأَل ماذا تَستطيع بلادُك أَن تُقَدِمَ لِأَجلكْ، بل ماذا تَستطيع أَنت أَن تُقَدِمَ لِبِلادِكْ. لَنْ أُسامِحَه على سِحره، فَكَيْفَ أَقنَعنا جميعاً أَنْ نَترِكَ ثوراتنا، وأَنْ نَرحَل؟ أَنْ نَشتُمَ أَنفسنا، ونَجلُدَ ذاتنا، كَيْفَ جعلنا نَشعُرُ كالخَوَنة، كَيْفَ جعلنا نَشعُرُ بالخَجَلْ مِنْ سَفالةِ رَغبَتِنا الدونية بِِحياةٍ أَكثَرَ مِنْ مُجَرَدْ كَريمة؟ وذلِكَ سيداتي سادتي، هوَّ بالتَحديدْ سِحرُ الانتخابات الأَمريكية، كَيْفَ تُرينا نَحنُ، الأَجزاء الأَقَل ديموقراطيّة في العالمْ، كَيْفَ تُكتَبُ الخِطاباتْ المَخصوصة لِلكادحينَ أَمثالنا! كانت هذِهِ المَقولة تُربِكُنيْ، حَتّى خلوتُ مَعْ المَطرْ. وَحدَهُ الرَبُّ يَدري مصابَ أَحمَدْ حَتّى نَجِدَهُ في لُغَتِنا ساخِراً بِهذا الحَدْ، وبِهذي الكِثرةْ، هوَّ شَرُّ البَليَّةِ ما يُضحِكْنا فَقَطْ كَيّلا يُبكيْ! فَكَيْفَ أَتى ببيتِ القَصيدِ ومِنْ آخِرِه حِينَ قال:
(نموتُ كي يحيا الوَطَن
‎يَحيا لِمَنْ؟
‎نَحنُ الوَطَنْ)

يَبيعونَنا الأَملْ، ونَحنُ بِأَمَسِ الحاجَةِ إِليهْ، فَنَشتريهْ بِغيرِ دِرايةٍ مِنا، أَنَّ ثَمَنَ الارتِكانْ إِليهِم، سَنَدفَعُهُ مِنْ حُريَّتِنا ودَمِنا، سَنَدفَعُهُ وأَيادينا على أَفواهِنا مُطبقاتْ!

اللُغَة البسيطة، هيّ التي تُصيبُ أَهدافها دائماً، وأَما اللُغَةُ المُتَكَلِفَة، تِلْكَ التيْ تَتَفادى أََنْ تًُصافِحَك، تِلْكَ لو أَصابَت أَهدافها، يَنتَحِرُ الهَدفْ. أَلا تَشعرونَّ بِسخريةِ الموَقِف؟ بِعَبَثيَّةِ نقاشاتِنا؟ بِتفاهَةِ حياواتِنا؟ وحَتّى ميتاتِنا؟ ولِمَنْ؟ لِحِسابِ مَنْ نَعمَلْ؟ هذا الدَينْ الَكبيرْ الذي نَعيشُ حياةً كامِلَةٍ لِسَدادِهْ، ونَعجَز فَوقَ ذَلِكْْ، ومِنْ ثُمَّ نَضطَرُ لإلقائه عَلَى القادمينَّ بَعدَنا، يودَعُ في حِسابِ مَنْ؟ يا الله كَمْ يكلفونَكَ (مَنْ أَنتْ) عِندما يُجَنِدوكَ لِتَكونَ (مَنْ هُمْ) وماذا يُريدونَكَ أَنْ تَكونْ، يا الله كَمْ مِنْ أَحلامِكَ يُحكَمُ عَليها بالإِعدام حَتّى ترى أَحلامَهم النورْ، كَيْفَ تُصبِحُ شَفافاً، مائيّا، مُغيَّباً كيْ تَمتَلِئ أَجسادُهم بِروحِكْ؟

فَلنَشكُر دولَ العالمِ الأَوَلْ على تعليمِنا أُسُسَ الإِلقاءِ والخطابَةْ، فَلنَشكُرْهم على أَفضالِهم اللُغويّة، والتي تُساعِدُنا بِالتغاضيْ عَنْ جرائِمِهم الفظيعةْ بِحَقِ إِنسانيتِنا، والتي تَبَثُّها لَنا بِأعلى دِقّة، مِنْ بابِ الشفافيَّةِ والمِصداقيّةِ، طَبعاً! يَبيعونَنا الأَملْ، ونَحنُ بِأَمَسِ الحاجَةِ إِليهْ، فَنَشتريهْ بِغيرِ دِرايةٍ مِنا، أَنَّ ثَمَنَ الارتِكانْ إِليهِم، سَنَدفَعُهُ مِنْ حُريَّتِنا ودَمِنا، سَنَدفَعُهُ وأَيادينا على أَفواهِنا مُطبقاتْ!

أَفَكانَ للُـ (متَنَبيْ) في أَعَزِّ أَيامِهْ ما نالَهُ الحِصانُ الأَسوَدُ في بدلاتِهِ الرَسميّةْ؟ لا، وأَلفُّ لا. الشِعْرُ مِنْ يَومِ يومِهِ بِلا نوايا، وأَمّا الخِطاباتْ، فَيا سيدي، بِلا ضَميرْ.

العُبوديَّةُ أَنتْ، والحُروبْ مُزيفة، والتاريخ مَكتوبْ، وكُلُّ ما تَظُنُ نَفسَكَ تُحارِبُ لِأَجلِه، ذَِلِكَ المَطلَبُ النَبيل الذي تَعَهَدتَ إِليهِ بروحِكْ، لو طَلَبتَ مِنْهُ استراحَةً أَو مُكافأةْ سَتَرى الوَحشَ الذي أَخفاه قِناعهْ، والمُصيبة.. الطامة الكُبرى لَيسَتْ هُناك، لَيست أَن مَنْ تُحارِبُ لِأَجلِهِ سيقتُلُكَ يا (جيفارا)، الطامة أَنْ الوَجه تَحتَ القِناع هوَّ وَجهُكَ.. أَنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.