شعار قسم مدونات

ما ذنب الفضلاء؟!

مدونات - الحجاب
ينتشر كثيرا عِند بعض الكتّاب أمثال "نيتشه" و"عبد الرزاق الجبران" والكثيرُ الكثير من الروائيين والكتّاب الشّباب ومَا يتبعهم ممن انبهروا بخطهم، مقتٌ لمعنى كلمة الفَضيلة كأنّها هي المَعرة، وأنّ ما دونها من وقاحة وسَماجة وسذاجة هي الحقيقة الصّريحة الخالية من متاهات التَزويق والتمثيل، حَتى يكاد القارئ يسلم أنّ إعلان خبايا النفس وخُبثها بطولة تُضاهي ما يُدعى في تعبيرهم من فضيلة، احتجاجا بالغواني وبنات الهوى التي أتى ذكرهن في الكتب السّماوية وأقوال وأحاديث الأنبياء، ففهموا من حال الحوادث أنّهن فاضلات فضيلة أعمق وأصدق.

بنظرة بسيطة سَيجد هؤلاء أنّهم يبررون رغَائبهم وحال أمرهم بتَجميل خَبث نَواياهم من خلال إشارات أدبية مُشوقة، فيقعون في التبرير دون أنْ يشعرون، بل قد يقعون في فخ تبرير سوء حالهم أكثر مِما يتباهى الفاضل بِفضيلته، فهُم يتبعون سبل الغَوغاء، يقطعون الطريق أمام أفهام الناس، ويَزرعون فيها مقتًا للمعاني السّامقة والأفعال الصّالحة، ويُصورنها على أنّها قشرة رثة تحتوي خلفها كل معانِي النّفاق والجبن والخداع.

فضيلة سَاقية الكلب لم تَكن لتكتمل لو لم تَرفع حذاءها وتَجسدها في عَمل إنسَاني مستقيم، كَذلك فُضلاء الظّاهر لن تكتمل فَضيلتهم حتى يأتون ربّهم بقلب سليم.

في حين أنّه البطل الشّجاع، كونه اقتحم تلك القشرة وهتك أستارها وأفصَح عن كل تلك الخبايا السيئة، دون أن يَكترث لصدامَات المُجتمع الذي يقدس الفُضلاء ويرمي بغيرها خلف حُدود التهميش، وقد تجد جَماهيرية كاسِحة لهؤلاء المستعرضين، حتى ممن يرفضون أفكارهم مجسدة في واقعهم لسحر بيانهم وتزوير الحقائق.

تلك الجماهيرية المصفقة تزيد مُعتنقي هاته الافكار اعتدادًا واعتزازا بأنفسهم، وتمادي أكبر في خط محاربة الفَضيلة بتأصيلات مُزورة وأخرى كانت نكرة في زمن ما، فَهم ينتَهجون كثيرًا طَريقة تلميع الشّخصيات النكرة من غبش الجنون واللامعقولية والشذوذ.

في المقابل يُنكلون بكل رموز الفَضيلة من أنبياء وصالحين وقادة عَمروا الأرض وشيدوا الحضارات والأمم، في مفاضلة عَجيبة يحسبها المَسحور المفتون بفَنهم الأدبي صدقًا واكتشافًا مبهرا عجز ألباب وعباقرة التاريخ عن كشفه..

هَكذا هو الإنسان الكَاتب يعبر انطلاقا من ذاته للعالم بحجم معرفته لها، فَتجد بَعضهم يَخلطون المفاهيم ويُؤصلون بذكاء لمعارف هِي ذات مقاصد مختلفة، فَنظرة بَسيطة وعميقة لعاقلٍ يميز بين الغث والسّمين سَيجد أنّ فَضيلة "الغَواني" و"بنات الهوى" التّي أتى ذكرهم على لسان الأنبياء هي فضيلة عَميقة، قمعت لتٌظهر نَفسها ويستبين إزهَارها وفنها، وهِي نماذج مُستثناة تعلم النّاس أنّ للفضيلة وجهَيها ولا يستقيم وجه دون الآخر.

فَفضيلة سَاقية الكلب لم تَكن لتكتمل لو لم تَرفع حذاءها وتَجسدها في عَمل إنسَاني مستقيم، كَذلك فُضلاء الظّاهر لن تكتمل فَضيلتهم حتى يأتون ربّهم بقلب سليم من غبش الكره والنفاق والحقد والحسد، وإلا فالأعمال وحدها لا تفي حقّ الفضيلة، وإظهار سوء النّفس وخبثها بأعمال مُتمردة عَن سَائد الخير والمُتَعارف عليه منذ خلق البشَرية لا يمتُ للفَضِيلة بِصلة دَاخلية كانت أو خَارجية.

قد تجد جَماهيرية كاسِحة لهؤلاء المستعرضين، حتى ممن يرفضون أفكارهم مجسدة في واقعهم لسحر بيانهم وتزويرهم الحقائق.

مَتى يُدرك دعاة التّعري النَفسي أنّهم أكثرُ مُتعدين عَلى خُصوصية الإنسان مع ذَاته، خُصوصية الإصلَاح، خُصوصِيات الضّمائر وما تَستحثُه من محَاولات لتَنقية الأعماق وتَرسِيخ الفَضيلة، إنّ أكبر إجرام بحَق النّفس أنْ تبررَ لها كل رغائبها وتجردها بذلكَ عن ضَميرها ومِنه عَن إنسَانيتها، لتتَساوى عَلى قَدر كَبير بِنفس الحَيوانات التّي لا يلجمها عن شَهوتها ضمير أو رغبة في كونِها الأصلح، فإذا تَلاشت روحُ الإصلَاح والتَنافس لذلكَ بين البشر، استبدل المَعنى بـ اللامعنى، واستوى العَمل الصّالح بالعمل القَبيح.

لطَالما يقع من يكنون عداء لدعاة الفضيلة في مغالطة عدم التفريق بين النفس والذات والضمير، فيخلطون كل ذلك ويعلون النفس على حساب الأصوات الأخرى، ويرون أي صدام بين الضمير وشهوة النفس ضرب من الصراع الداخلي، أو ضرب من النفاق والكذب على الذات، فتصاغ تطلبات النفس على أنّها قرار الذات وليس رغبة النّفس وأنّ إظهارها بِشكلها المنكر ضَرب من الانتصار عَلى النّفس ذاتها، وبطولة وسير بعكس خط القطيع فِي مُناقضَة عجيبة يكشفها أي عارف بالفُروق بين ما سبق ذكره.

هاتِه التناقضات في فَهم الذات التّي يقع فِيها هؤلاء تجعلهم يَستَميتون دفاعًا على المَفاهيم المَقلوبَة ظَنًا منهم أنّهم يَنتصرون للإنسان، وهُم في حَقيقتهم يَنتصِرون للحَيوان المَاثل فِي نَفس كل بَشر.. إنّ أسهل مِن كُفرانِ الفَضيلة ادعاؤها، وأشدُ من كل ذَاك الاتصاف بها مَعنى وتَجسيْدا، إن مَن يَموتون فِي سَبيل النفس كثر، وقَلائل هم شُهداء الفَضِيلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.