شعار قسم مدونات

لقد أصبحت أخاف يا أمي

blogs الخوف

كلما هممت بالخروج أو السفر إلى مكان إلا وحملتني أمي مجموعة من الوصايا: "لا تخرجي لوحدك في وقت متأخر"، "لا تمشي في أزقة خالية"، "إذا أذاك أحد فتغاضي وإذا رأيت أحدا يؤذى فلا تتدخلي"، إلى آخر القائمة التي تطول.

لاحظت أن أمي لا توصي أحدا من إخوتي عند خروجهم بمثل ما توصيني به، فانتابني الغضب وسألتها يوما حانقة: "ما بالك لا تثقين بي؟ ألا ترين أني بالغة راشدة، أعرف ما أفعل وأتحمل مسؤولية أفعالي وقراراتي؟ أنسيت أني أكبر أبنائك وأني سافرت لوحدي مرارا داخل البلد وخارجه وأني عشت لوحدي؟"

 

أجابتني وخوف الدنيا في عينيها: "كلا، لم أنس وأنا أثق بك جيدا، ولكني لا أثق بالناس. تريدين أن تعرفي لم أخاف عليك كل هذا الخوف؟ لأنك لا تخافين على نفسك. أنت مغامرة وتحبين المجازفة، وكل الأمور تبدو لك بيضاء أو سوداء. تظنين أن الجميع سينتصر للحق لأنه حق. ولكن الناس لا يرون الدنيا من منظورك يا ابنتي.

وجدتني أتذكر حديثي مع أمي وأنا أتمشى في شوارع اسطنبول ليلا لوحدي، كالعادة، عندما رفعت رأسي لأرى وجوها يظهر الشر عليها تحملق بي. تساءلت: أفعلا أجازف بسلامتي؟ أتراني فعلا لا أخاف؟ تذكرت أسفاري كلها والشوارع التي تمشيت فيها وأحسست بحنين إلى تلك الأماكن ولكني لم أشعر بالخوف. 

الخوف يا أمي ليس من الغرباء الذين التقيتهم أو سألتقيهم لأن أولئك لا أعرفهم ولا أثق بهم. الخوف يا أمي من الذين استأمنتهم على أسراري ومواطن ضعفي وأدرت لهم ظهري ثقة بهم فاستلوا خناجرهم وغرسوها فيه. الخوف يا أمي من المقربين

لم ينقبض قلبي إلا حينما تذكرت كيف تكالب علي من ادعوا مساعدتي وهم في الحقيقة كانوا يكيدون لي، كيف طعنني من وثقت بهم في الظهر، كيف تخلت عني الرفيقات والصديقات في عز أزمتي، كيف غدر بي من استأمنتهم على قضيتي وكيف لم ينصفني من يدعون العدل. فجأة أحسست برعب يجتاحني، عجزت عن التنفس ودارت الدنيا من حولي.

آه لو تعلم أمي أن الخوف ليس من الطرقات التي لم أسرها أو تلك التي سرتها وحيدة، إنما الخوف من أولئك الذين يلبسون رداء الأصدقاء ويدعون الحب وهم يتصيدون الفرص للانقضاض علينا. الخوف يا أمي ليس من الغرباء الذين التقيتهم أو سألتقيهم لأن أولئك لا أعرفهم ولا أثق بهم. الخوف يا أمي من الذين استأمنتهم على أسراري ومواطن ضعفي وأدرت لهم ظهري ثقة بهم فاستلوا خناجرهم وغرسوها فيه. الخوف يا أمي من المقربين. الخوف يا أمي ممن يملك سلطة يجور بها على الناس وصحة يستقوي بها على الضعفاء وممن يرى المنكر ولا يسعى إلى تغييره.

بعدما ذقت الظلم والخيانة فيمن توسمت فيهم الخير والأمانة أصبحت أخاف يا أمي. أصبحت أخاف أن أمشي بالشارع وأتعرض لمشكلة فلا أجد من يقف بجانبي أو ينصفني. أصحبت أخاف أن أرى أحدا يظلم فلا أستطيع أن أغيثه لأني إن فعلت لن أجد من يغيثني. أصبحت أخاف أن أثق بمن حولي فيغدرون بي. لقد أصبحت أخاف يا أمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.