شعار قسم مدونات

صحوة أمة

People are seen at a market amidst a traffic jam in downtown Cairo May 22, 2014. Days before a presidential election he seems certain to win, Abdel Fattah al-Sisi released a detailed, colour-coded rendering of
ماذا لو لم أُولد مصرية؟ سؤال لم يفارقني طيلة أربعةَ عشر عامًا خارج سربي، بعيدة عن موطني، أرسم له في مخيلتي صورًا ورديةً، بآمال بريئة، وأعي أنه المنة التي لم يحظى بها الكثيرون، وميزت أنا من بين القليل بشغفي به، كنت أترقب اللحظة التي أحط فيها على بسيطة هذا المأوى العظيم، لكنني ارتطمت بعد ذلك بواقع مضن، فوجدتني أدنو من السقوط في هوة سحيقة، ما بين حلم أَخاذ، وكابوس مروع، فقد وجدت أن هناك ثلاث نكبات تنخر في عظام أمتي، بيد أن عثرتان أكفأتها على وجهها. 

تلك الثلاث نكبات، كل واحدة منهن كفيلة بأن تُجهز على حضارة، فما بالكم إذا اجتمعت الثلاث على حضارة واحدة؟! النكبة الأولى هي نكبة ثقة، فالثقة بُترت أواصرها بين الأفراد بعضهم البعض، وبين الأفراد والقادة، فما تزال تطوف بين دروب وطني العتيقة، حتى تجد هذا يخون ذاك، وتلك المرأة تصرخ في وجه أحدهم بأنه كاذب.

أما النكبة الثانية فهي نكبة سلوك، فنحن نعاني من صدع في السلوك الحضاري، كالنظافة، والتعامل مع الموارد والثروات، والفاجعة كانت الخلل في الأخلاق، فأمتي الدامعة جراء جرح أخلاقي غائر، تعيها أكثر النكبة الثالثة، وهي نكبة إنتاج، فكيف لنا بعد سبعة آلاف عام من الحضارة أن نصبح أمة مستهلكة؟ وكيف تعجز سلة غذاء العالم عن إطعام ذاتها؟! برغم كل الموارد التي حبانا الله بها، فالإمكانيات المادية والبشرية في مصر أضعاف ما تمتلكه أي حضارة أخرى، لكننا آثرنا الانسحاب من سباق الإنتاج الحضاري، وتأخرنا عن ركب التنافس العالمي في شتى الميادين.

نحن أمة القلم، ومن تلألأ علمنا في دُجى ليلهم البَهيم، فكيف نقبل بعد ذلك أن نكون خلفهم في أذيال الأمم، وبالنظر إلى تجارب الأمم، نتيقن أنه حقيقة تستوجب المثابرة والدأب.

مهما حاولنا أن ندرأ عن مِصرنا مفاسد النكبات الثلاث، فلن تنهض إلا بجبر عثراتها أولًا، فعلى جرف هار زلة قدم أمتي فتعثرت، وكانت تلك عثرة التخطيط، فطيلة هذه السنوات لم نحظى سوى بتخطيط فج أجوف، يجني الخطوب والنوائب أكثر مما يجني الرغد والرخاء، فما جدوى ثروات ضخمة، مقابل تخطيط أرعن، يودي بها لتصبح هباء منثورًا، فنحصد الفقر المدقع، والجوع المفجع، والمرض المفزع، فلو انتهجنا تخطيطًا سديدًا لبتنا قادة الأمم، وسادة العالم، وإذا أَجَلْنا النظر لأدركنا أن كل الحضارات التي نمت وازدهرت مجتمعة، لم تمتلك معشار امكانات هذا الوطن العظيم، لكنها امتلكت التخطيط الراجح، فأفلحت.

لكن الأمر لم ينتهي، فالعثرة تلتها عثرة وعرة، ففي أُخدود الجرف اصطدمت أمتي بصخور صلدة حادة، أدمتها حتى دوى أنينها ألمًا، وحين حاولت النهوض ودَحْرِ أوجاعها، تعثرت مجددًا، أتعرفون ما تلكم الصخور التي أفضت الى أعمق جروح الأمة وأشدها؟ إنها تملص الهوية، التي تَعَرَّى منها جُل أبناء الوطن، حتى صاروا مولعين بعالم الغرب اللامع البراق، مغرمين بملابسهم، متيمين بأفلامهم وأغانيهم.

فلو سألنا أحد أطفالنا أن يسرد لنا عشر أسماء لممثلين غربيين، وعشر أسماء لصحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فستراه في سرعة البرق سرد لك أسماء الممثلين، واعتقل لسانه وهو يذكر أسماء الصحابة، لكن الإثم ليس على الغرب، بل على غفلتنا، فالبَديهيّ أن كل أمة تتطور وتعمر حضارتها وتسعى لأن تكون الأقوى- في زمن لا يقود ولا يبقى فيه غير القوي- فذلك لأن مرامها أن تنتصر لهويتها.

في حين أننا لا ندخر جهدًا لطمس هويتنا، فنركض، ونلهث وراء الآخر عبر التقليد الأعمى -في الاطار الذي يحدده هذا الآخر لنا-، نتيجة لوابل المغريات التي يصبها علينا الغرب صبًا، ولا نستورد منهم غير ما لا يسمن ولا يغني من جوع، وهذا مبتغاهم، من خلال الضخ الإعلامي المباشر على أذهان أطفالنا وشبابنا وحتى شيوخنا، فاجتماع قبح الغرب مع غفلتنا أدى إلى طامة محققة، نتجرع كأسها المر، ونكابد من ثمرها العلقم، إنها الهوية الممسوخة.

لكن ما الذي سيُعَدِل حال الأمة من أسى إلى غبطة، ومن انتكاس إلى نهضة، ومن تقهقر إلى رقي؟ وكيف تسترد أوج حضارتها؟ وكيف ترد مجد ذاتها المهدورة؟ وما السبيل لجبر عثراتها؟ وما الذي يُكَفكف مدامعها ويفرج نكباتها؟ ومتى تبرأ من آلامها؟ وما الذي يعيد فجرها الباسم ليشرق من جديد؟ إجابة تلكم التساؤلات واحدة "التعليم"، فالتعليم هو رادع كل أزمات الأمة، وعن طريقه تُغرس الهوية في براعمنا، ونرسم تخطيطًا صائبًا لنبلغ موقعًا بارزًا في مَصافّ دول العالم المتحضر، ونصبح أمة منتجة للغذاء والدواء ومختلف الصناعات.

لا ندخر جهدًا لطمس هويتنا، فنركض، ونلهث وراء الآخر عبر التقليد الأعمى -في الإطار الذي يحدده هذا الآخر لنا-، نتيجة لوابل المغريات التي يصبها علينا الغرب صبًا.

وبه يُقَّوم السلوك، وتُسن السلوكيات الحضارية في النفوس، وتوطد أعمدة الثقة بيننا، مهلًا! هذا ليس حلمًا أو توهم، بل هو واقع نهضة أمة، نحن أمة القلم، ومن تلألأ علمنا في دُجى ليلهم البَهيم، فكيف نقبل بعد ذلك أن نكون خلفهم في أذيال الأمم، وبالنظر إلى تجارب الأمم، سنتيقن أنه حقيقة تستوجب المثابرة والدأب، ومثالًا على ذلك : ألمانيا، ارتكزت في نهضتها على تطوير التعليم، بالرجوع إلى علمائها وهويتها، لتحقق خلال عقود قليلة الصدارة في المجال الصناعي، وماليزيا التي تمكنت في عقد واحد فقط أن تصبح عاشر اقتصاد عالمي بعدما كانت دولة نامية، وعلى إثر ذلك يمكننا بكل ثقة وتأكيد أن نصبح بعد أعوام قليلة في طليعة دول العالم الاقتصادية، ولا أستبعد هذا أبدًا، مع كل هذه الثروات والموارد، وتطوير التعليم.

وهكذا تصبح مصر قبلة العلم والحضارة، وتعود من جديد مقصدًا لنهل المعرفة، وتشرع في تأهيل جامعاتها لتقارع الجامعات العالمية، وتدشن صرحًا علميًا يفتح آفاق جديدة، ليبدأ في مصر لون فريد من ألوان السياحية، وهو سياحة التعليم، وبهذا يُولد عهد جديد في مصر تتحرر فيه هويتنا من الرق، لنسود الأمم بغير أصفاد، وتغزو منتجاتنا الأسواق العالمية، ونبرأ من كل النكبات والعثرات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.