وأكثر ما يثير الشفقة بحق، أن الشعوب العربية وبكل أسف تغلب عليها لغة العاطفة في كل شيء، وتهرول دائما خلف السراب وتحكم على الأشياء بمظهرها البراق الخارجي دون معرفة كينونتها وماهيتها.
ولنا في التجليات السياسية التي مارسها رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة، وبسبب عدم استخلاص حكامنا وولاة أمرنا العبر منها، وتوظيفها لتتناسب مع حاضرنا، وصلنا إلى الواقع الذي نعيشه الآن.
ومن هذه التجليات على سبيل الذكر لا الحصر: رعاية شؤون الداخل، فكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت من خير الأمثلة على حسن رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لشؤون الأمة، شؤون الدولة الجديدة الفتية، فأرسى دعائمها لتقوم بوظيفتها وهي حمل الإسلام إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد.
وجاء صلح الحديبية، الذي كان من أكبر المناورات السياسية، حيث نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحييد قريش عن ساحة الصراع المادي ليتفرغ لأمرين:
في ظل الحالة الراهنة والمستعصية، ما زالت شعوبنا العربية تفر إلى دواخلها، تبحث وتفتش عن بصيص أمل يقذفها في مجرى الأماني الجميلة، تلملم أحاسيسها المبعثرة، لتنصهر في لوحة الأحلام المنسية. |
1- ليتفرغ لباقي الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، ليضمها إلى جسم الدولة الإسلامية.
2- ليعلن الدولة الإسلامية دولة كبرى في العالم، تؤثر في الموقف الدولي، بل تزاحم الدول الكبرى آنذاك، دولتي الفرس والروم، حيث تفرغ صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لمخاطبة الدول العظمى في زمنه، وإرسال الرسائل للملوك والأمراء والكيانات السياسية الأخرى، وذلك ليبين للمسلمين أن وظيفة هذه الدولة الأساسية إنما هي تطبيق الإسلام في الداخل وحمل الإسلام إلى الناس كافة. ثم كان ما كان بعد ذلك من مواجهات سياسية ومواجهات مادية مسلحة مع الدولة العظمى آنذاك دولة الروم، لتصبح الدولة الإسلامية ثالث الدول العظمى بعد دولتي الروم والفرس.
لا أحد ينكر أن بحر السياسة الخانق والواقع العربي المنحدر إلى القاع باقتدار في حجب خيوط الانتصار والتقدم والرقي عن الشعوب، وتركها تغوص في ظلام الهزائم المتواترة حتى أشعرتها بالغربة القاتلة. والحالة المقيتة التي تحياها السياسة العربية لم تصل بعد للانهيار التام، والسقوط المدوي في مستنقع تكبيل القيود وتحجيمها عن الحركة والمناورة، وهناك بصيص أمل لإعادة تصويبها وفق رغبات الشعوب وتفضيلاتهم، ومبنية على ارتباطات داخلية وطنية دون الالتفات للنداءات الخارجية. وسيظل الواقع العربي يكابد المعاناة والحسرة نتيجة أخطاء بنيوية في ممارساته السياسية، بفعل النهج غير القويم في تعاملاته مع الأحداث من حوله، والخاسر الأكبر من هذه "الجعجعة الفارغة" هي الشعوب وحدها.
فالسياسة ليست عبارة عن إنتاج الأوهام وبيعها في مزادات الخطابات والمهرجانات الشعبية، وانتظار التصفيق الحار في كل دقيقة من الشعوب، إنما قائمة على مصالح أوطاننا الحالية والمستقبلية، وصناعة أفق واعد للأجيال القادمة.
في ظل الحالة الراهنة والمستعصية، ما زالت شعوبنا العربية تفر إلى دواخلها، تبحث وتفتش عن بصيص أمل يقذفها في مجرى الأماني الجميلة، تلملم أحاسيسها المبعثرة، لتنصهر في لوحة الأحلام المنسية، وتعانق خيوط الشمس لترى النور الذي غيبته السياسة العربية ومدغدغي مشاعرها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.