شعار قسم مدونات

مواهب زائفة

مدونات - كاتب

تضاربت الآراء حول ما إذا كان نجاح الأديب وشهرته يُفسِدان أدبه وشخصه. فمن قائل إنّ النجاح هو ألدّ أعداء الأديب فالكتاب الجيّد يأتي له بالمال وما يأتي المال حتى يَرفعَ به من مستوى معيشته فيَحرص كلّ الحرص على ألاّ ينخفض. ويؤدّي حرصه ذلك إلى السرعة في الكتابة وهذا يؤدّي بدوره إلى الإسفاف ودُنُوِّ المستوى. إذ يَهبط مستوى كتاباته حتى يَخمُدَ حماس القرّاء والنقاد وبخمود هذا الحماس تَهتَزُّ ثقة الأديب بنفسه. ومن قائل إنّ النجاح لا يُفسد الأديب بل يُصلِحه. وهو لا يؤدّي به إلى الغرور وتعاظم الإحساس بذاته. إنّما يُعزّز من السّمات الطيّبة في خُلُقه ويُضفي عليه تواضعاً واعتدال مزاج.

وتضارب الآراء هذا راجع في حقيقته إلى اختلاف طبائع الناس اختلافاً يجعل من الأمر الواحد مفيداً لهذا وضاراً لذاك. فالقاعدة في هذا الشأن أنه ليس ثمة قاعدة. إنّ الأمر يتوقف على شخصية الأديب وطبيعة تكوينه. فإن قيل إن الفراق قد يقتل المودّة السطحية ويزيدها توهّجاً فكذلك النجاح والشهرة قد يقتلان المواهب الزائف ويَصقلان الموهبة الحقيقية.

مَن جاءت شهرته الزائفة نتيجة تناوله لموضوعات الساعة أو لإرضاء ميول طائفة واتجاهات سياسيّة أو دينية "مؤقتة" فإنّ شهرته أشبه شيء بالأعشاب الطفيليّة التي تنموا سريعاً وتَذوِي سريعاً ويَسهل اقتلاعها.

ما دفعني لكتابة هذه المقالة أو استفزني بعبارة أدقّ هو محاولة التطرق لسبب منطقيّ يفسر رواج الأدب الوضيع وشهرته والأمثلة في ذلك كثيرة وأنتم تعرفون. وإنّ هذا النوع من الأدب هو أغلبه ما يَصدر حديثاً. وبالطبع لسنا نعمّم وإنّما قلنا أغلبه ففي الأدب المعاصر نجد أيضاً ما هو قيّم يُأخذ بعين الاعتبار. وإن عناويناً كثيرة صدرت الأعوام الأخيرة وانتشرت بين القرّاء انتشار النار في الهشيم وما هي جديرة بهذا الصّيت ولا حتى بنشرها فهي خالية من المضمون النافع. وعلاوة على هذا تجد فيها لغة ركيكة بسيطة.

فما سبب شهرتها إذن؟
إنّ صاحب الموهبة الزائفة قد يخرج على الناس بكتاب يَلقى بينهم رواجاً عظيماً ولا يكون لهذا الرواج أدنى صلة بعبقريّة أو نبوغ. فقد يكون حاوِياً لأسرار سياسيّة لا يعلمها غيره وقد يكون كتابه فكاهياً رائقاً أو بوليسياً شائقاً أو عاطفياً يَستهوي قلوب المراهقين والمراهقات أو شديد التعاطف مع تيّار سياسيّ أو دينيّ له شعبية كبيرة "مؤقتة". حينئذ يَلمع اسم الكاتب وتزيد دور النشر من نسبة مكافآته وتستجلبه الإذاعة للحديث فيها والتلفزيون لكتابة التمثيليات المسلسلة وتستكتبه الجرائد والمجلات ويُدعى للاشتراك في الندوات وحضور المؤتمرات وإلى إلقاء المحاضرات وتجري معه المقابلات الصحفية ويُؤخَذ رأيه عند وقوع حدث. ويُمطَر بالأسئلة عن نمط حياته وأسلوب معيشته وعن أنواع الأطعمة التي يَهواها والأغاني التي يستطربها وعلّة غرامه بالقطط وسبب كرهه ارتداء رباط العنق.

وهو إذ يُقبِل العلامة الفهامة المسكين على كلّ هذا في نشاط وهمّة إنّما يحفر قبره بنفسه. فالساعات التي كان يُقضّيها في الاطّلاع والقراءة تتناقص فتتضاءل فتندثر. والمال الذي بات يُغدق عليه نقله من الريف أو من مدن الأقاليم إلى العاصمة أو من وسط شعبي يفيض حياةً ولربّما كان مصدر إلهام كتاباته الأولى إلى صالونات الأغنياء والأدباء من أمثاله. وقد تعرّف بسبب نجاحه الزائف بعدد كبير من النقاد وأنشأ معهم علاقات شخصية فباتوا مضطرين إلى امتداح كلّ كتاب جديد له أو الإحجام -على الأقل- عن بيان نقائصه عيوبه. فيزيده مديحهم الذي يحسبه مخلصاً اطمئناناً إلى استمرار موهبته. وكما قال ابن قُتَيْبة:

وَعَدَّ النَّاسُ ضَرْطَتَهُ غِنَاءً
وَقَالُوا إِنْ فَسَا قَدْ فَاحَ طِيبُ

تأخر الشهرة والنجاح سبب في ألاّ يتعجّل الكاتب الإنجاز إذ ليس هناك ما يستحثّه ويدفعه إلى أن يُمسك بالقلم ما لم تَجُلْ بخاطره فكرة جديدة ذات قيمة. وهو في العادة يكتب لإرضاء حافز داخليّ قويّ يحفّزه إلى التعبير عن ذاته لا لإرضاء جمهور قرّائه.

وإذ أنّ الصّحف ودور النشر والقنوات التلفزيونية وسائر سُبُل الإعلام يُهمّها شهرة الكاتب قبل جودة ما يكتبه فإنّها تظلّ على إلحاحها في طلب المقالات والتمثيليّات المسلسلة والكتب إلحاحاً يوهِمُهُ بأنّه لا سبب وراء الإلحاح غَيْرَ عبقريّته. وكذلك تلك المؤسسات المعنية بالمؤتمرات وحفلات التوقيع والجوائز الأدبية أصبحت هي الأخرى تتنافس على بهرجة السلاطين.

وأمّا عن أصحاب المواهب الحقيقية فما من أدنى شكّ في أنّ الشهرة من ستكون من نصيبهم وإنّما ستلازمهم ملازمة الظلّ للإنسان. غير أنّها كالظلّ تسبق الإنسان أحياناً وتتبعه أحياناً أخرى. وقديماً قيل إنّ معبدها يَحوي أمواتاً لم يدخلوه حتى ماتوا وأحياءً سيطردون منه فور وفاتهم. على أنّ تأخر شهرة المجيد الموهوب هو في الغالب خيرٌ له وإن كرهه وتألّم به. وعلى قول دعبل:

يَمُوتُ رَدِيءُ الشِّعْرِ قَبْلَ أَهْلِهِ
وَجَيِّدُهُ يَبْقَى وَإِنْ مَاتَ قَائِلُهُ

فهو إن تأنّى فإنّما لَيُتقِن. قال بعض الشعراء لبعض: أنا أقول كلّ ساعة قصيدةً وأنت تقرضها في كلّ شهر. قال: لأنّي لا أقبل من شيطاني ما تقبل من شيطانك! وإن كَتَبَ فإنّما يكتب للأجيال كافةً والأمم كافة لا لجيله وحده وأمّته وحدها. أمّا مَن جاءت شهرته الزائفة نتيجة تناوله لموضوعات الساعة أو لإرضاء ميول طائفة واتجاهات سياسيّة أو دينية "مؤقتة" فإنّ شهرته أشبه شيء بالأعشاب الطفيليّة التي تنموا سريعاً وتَذوِي سريعاً ويَسهل اقتلاعها.

إنّ تأخر الشهرة والنجاح سبب في ألاّ يتعجّل الكاتب الإنجاز إذ ليس هناك ما يستحثّه ويدفعه إلى أن يُمسك بالقلم ما لم تَجُلْ بخاطره فكرة جديدة ذات قيمة. وهو في العادة يكتب لإرضاء حافز داخليّ قويّ يحفّزه إلى التعبير عن ذاته لا لإرضاء جمهور قرّائه. ويَحضرني في هذا السياق قول الشاعر:

عَلَيَّ نَحْتُ القَوَافِي مِنْ مَقَاطِعِهَا
وَمَا عَلَيَّ لَهُمْ أَنْ تَفْهَمَ البَقَرُ

إنّنا نحترم أدب الكتّاب المعاصرين وأصالتهم. ولكنّنا لا نجد ما نبحث عنه في صفحات كتبهم. وإذا أسرعنا ودمغنا هذه الكتب كلّها بطابع الماديّة فإنّنا نعني بذلك أن هؤلاء المؤلفين يكتبون عن أشياء لا أهمية لها ويَصرفون عَمَلا مضنياً لجعل الشيء التافه مهمّاً.

وهو يدرك أنّ النائحة الثكلى ليست كالنائحة المُستَأجَرَة وأنّ الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لن تتجاوز الآذان.

وخلاصة القول أنّ هذه الشهرة التي كثيراً ما يُنالها أصحاب المواهب الضَّحِلة هي كالعملة الزائفة يَظلّ صاحبها في قلق مستمر من أن يُكشَفَ أمره ويسقط قناعه ويتّضح فتنتهي صلاحيّة شهرته وهو ما لا بُدَّ واقع. ويُذكي -للأسف- وهج المواهب الزائفة كثرة الهرج والمرج وطُغيان الشكل على المضمون وزيغُ الذوق الأدبيّ العام كغيره في قوائم ثقافة الكيف التي طمرتها فيضانات الكمّ غير المسؤول حيث أضحت البيئة مواتية لذوي المواهب الضّامرة أن يُطالوا بكثرة ما أخرجوا من الترهات التي لم تفسد الذوق العام وكفى بل جعلت من السفه معياراً للحكم على الجودة ومن الكم حكماً على الكيف. ولن يتوقّف هذا الزّخم ما دامت قرائح ذوي المروءة الأدبية أضحت حاسرة. وقد قالوا: حياة المروءة الصِّدقُ. وبحجة تعدّد الأذواق غرق الفن في الرداءة وصار الحمقى مشاهير.

وتبقى في الأخير أن أقول أنّنا نحترم أدب الكتّاب المعاصرين وأصالتهم. ولكنّنا لا نجد ما نبحث عنه في صفحات كتبهم. وإذا أسرعنا ودمغنا هذه الكتب كلّها بطابع الماديّة فإنّنا نعني بذلك أن هؤلاء المؤلفين يكتبون عن أشياء لا أهمية لها ويَصرفون عَمَلا مضنياً لجعل الشيء التافه مهمّاً باقياً مع الأيام. علينا الاعتراف بتشدّدنا بالإضافة إلى أنّنا نجد من المتعذر تبرير ضجرنا بتفسير ما نحن متشدّدون فيه. نحن نضع السؤال بصورة مختلفة على حسب الأحوال المتباينة فيعود هذا السؤال من جديد بعد أنهار قراءة رواية بعد أن نكون قد أنفقنا فيها جهداً ومالاً، وصيغة السؤال هي: هل تستحق هذه الرواية كل هذا العناء والنصب؟ ماهي فكرتها؟ أيمكن أن يكون الأمر عائداً إلى بعض الانحرافات التي تميل إليها الروح الإنسانية من وقت لآخر؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.