شعار قسم مدونات

بئر معطلة وقصر مشيد

blogs العمل الخيري

ودّع الفاروق عمر بن الخطاب أحد وُلاَّته سائلا إياه قبل المغادرة: ماذا تصنع إذا جاءك سارق؟ فكان جواب الوالي على البدَهِيِّ والمحفوظ: "أقطعُ يده يا أمير المؤمنين!"، لكن عُمرَ، صاحب النظرة النافذة والعميقة، ردّ بحزمه المعروف قائلا: "أنا من يقطع يدك لو جاءني جائع أو عارٍ!".

ارتباطا بما تعرفه المنطقة العربية من توترات وتصدعات على مستوى النسيج المجتمعي السفلي، وارتباطا بما خلّفه "الربيع" العربي من نتائج عكسية في أغلب الدول الرافعة لشعار الثورة المسلّحة، والكفاح والنضال ضد الاستبداد والفساد السياسيين والاقتصاديين؛ جاء الحراك الشعبي في الريف المغربي خلف زعامات شابة، لم تستطع إخفاء وتورية ما مارسته الحكومات المتعاقبة على المنطقة، طيلة عقود، من ظلم وقهر وتهميش، إضافة إلى ما يعانيه هؤلاء وأمثالهم من ظروف معيشية تكاد تكون دون الخط الأحمر المسموح به عالميا -وأخلاقيا حتى- للعيش الكريم، فكان أن انتفض الريفي -متجاوزا مجموعة من الثوابت السيكولوجية والاجتماعية الموروثة- باحثا عن وطن آخر اسمه " الخبز والكرامة ".

لم تكن المناطق المغربية الأخرى جنوبا وشمالا بمنأى عما طال الريف من تغييب وإقصاء من أجندات الدولة وخططها التنموية، ومن مشاريعها الاستثمارية التي اقتصر نفعها ومردودها ولازال على أشخاص ذاتيين وعلى فئات قليلة تنتفع بكل شيء، بعيدا عن القطاع الكبير من الشعب الذي ظل منذ عقود يقتات على الفتات، وكأنه، أي الشعب، لا يستحق من مكاسب مشاريع الدولة المخصخصة درهما واحدا، بالرغم من كونه الآلة العاملة والمُنتجة لرأس المال ذاك دون أدنى شك، وكم كان الطبيب الأرجنتيني إرنستو جيفارا صادقا حين قال: "ما الذي يستفيده المجتمع إذا ربح الأموال وخسر الإنسان؟". هكذا وجد المستضعفون أنفسهم تُرسًا في "ماكينة" الدولة التي تغوَّلت وسرقت جهد الساعد وعرق الجبين، وصادرت قوة الشباب ونضارته، فأضحوا شيبا بلا ماضٍ وبلا حاضر وبلا مستقبل، منتظرين أن يصافحهم الموت أي لحظة. 

مع تزايد أعداد المنكوبين عالميا جراء الفقر والحروب في ما يسمى بدول عدم الاستقرار؛ تقتضي إعادة التفكير في الإنسان كإنسان يستحق كل أنواع الرعاية والعطف والمساعدة، تحقيقا لآدميته غير المشروطة، كأدنى ما يمكن منحه إياه

إلى هنا على الأرجح لم نأت بجديد، فالواقع العربي يكاد يكون مستنسخا، بل هو ذاته في كل قُطر وإقليم، ولعل الصغير والكبير مطّلع عليه ويعرفه كما يعرف عدد أصابع كفّه، وقد أصبح مأنوسا كذلك إلى درجة أنه يجري للأسف في كل عربي مجرى النَّفَس والدماء!

منذ وَعَى الإنسان جدّيّا الاهتمام بالإنسان ككائن يستحق الحياة الكريمة على هذه الأرض، ومنذ بدأ بصكّ المواثيق والعهود الدولية ونشر ثقافة حقوق الآدميين، خصوصا بعدما رُدِمَ الملايين تحت التراب بُعيد الحربين العالميتين؛ أخذت السياسات التدبيرية والتنموية تتخذ شكلا آخر، إذ بدأت الحكومات تردم الهوة بينها وبين الشعوب المرتبطة بها، وبدأ المسؤول يقترب بشكل سريع من المواطن، سامعا نبضه، ساعيا لتلبية حاجاته، وتأمين حقوقه، وتوفير ضرورات عيشه، مستذكرا دائما العقد الاجتماعي الذي يربطه به.

 

الوضع الذي أفضى -إضافة إلى ظروف أخرى- لاحقا إلى نشوء ما يسمى بدول "الرعاية الاجتماعية" في الغرب تحديدا. ودولة الرعاية الاجتماعية كما يشير إليها المصطلح تهدف بالأساس إلى تأمين مستوى مناسب من الحياة لكافة الأفراد، تحقيقا للتوازن والاستقرار الاجتماعيين، وهو الواقع المنتفي في الكثير من البلاد العربية. تعددت المراجع والبحوث التي اتخذت هذا المصطلح -الجديد نسبيا- كموضوع للبحث وللدراسة، سعيا إلى تأسيس قواعده وتشييد معماره، وبالتالي فتح المجال لتطويره ونشره على أوسع نطاق، خصوصا وأن المرحلة الحرجة التي بلغتها البشرية في يوم الناس هذا، ومع تواتر القلاقل هنا وهنالك، ومع تزايد أعداد المنكوبين عالميا جراء الفقر والحروب في ما يسمى بدول عدم الاستقرار؛ تقتضي إعادة التفكير في الإنسان كإنسان يستحق كل أنواع الرعاية والعطف والمساعدة، تحقيقا لآدميته غير المشروطة، كأدنى ما يمكن منحه إياه، تجنبا لإدراجه على الأقل في مملكة الحيوان !

ومن المؤلفات التي يمكن الإشادة بها في هذا السياق، كتاب "دولة الرعاية الاجتماعية في القرن العشرين، تجارب الأمم المتقدمة في تكريم الإنسان" لمحرريْه جون ديكسون وروبرت شيريل ، مُعرّفيْن -بمعية مؤلفين آخرين- في ثنايا الكتاب بدولة الرعاية وبالشروط اللازم توفرها في دولة ما لتكون أهلا لهذا التوصيف، وهنا أشار المؤلفون إلى نماذج حازت قصب السبق في هذا المجال واستطاعت أن تؤكد حضورها في الساحة الإنسانية قبل الاقتصادية والسياسية، ونذكر أستراليا وكندا وفرنسا والسويد والمملكة المتحدة و أمريكا كدول متقدمة اقتصاديا، والبرازيل وزيمبابوي كدولتين ناميتين.

 

ولعل ما يثير الاهتمام والدهشة حقا في الكتاب، إجماع مؤلفِيهِ على فكرة مفادها "إن الرعاية الاجتماعية هي أقوى أشكال تقدم الدولة"، وهو المعنى ذاته الذي أومأ إليه المؤرخ المصري حسين مؤنس في كتابه الحضارة، زاعما أن رغيف خبز وآنية من الفخار أنفع للإنسان من الأهرامات ومن قصور فيرساي ومن استكشاف القمر. ومما يمكن به أيضا تعضيد أفكار كتاب ديكسون و شيريل، ما أورده مجموعة من المؤلفين في كتاب "دولة الرفاهية الاجتماعية"، وهو دراسة مستفيضة بسطت كذلك نماذج دول يمكن أن تدخل ضمن قائمة دول الرعاية، ونقصد الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا، من خلال ما انتهجته من سياسات تنموية تتخذ المواطن قلبها ومركزها، إضافة لبعض الدول الخليجية كالإمارات وقطر وسلطنة عمان وأخرى، الساعية بمداخليها النفطية إلى تحقيق نوع من الرفاه الاجتماعي وجودة الحياة، وكذا تمكين المواطن من بلوغ الحد الأدنى من مؤشرات السعادة؛ وهنا لابد من الإشارة لمبادرة دولة الإمارات التي أنشأت وزارة خاصة للسعادة، صانعة التفرد في العالمين العربي والإسلامي.

لا يبدو من اللائق أخلاقيا واجتماعيا ودينيا أن يظل إنسان الألفية الثالثة صارخا في بئر مُعطَّلة يستجدي ويتسول رغيفا لبنيه أمام بُرج فخم وقصر مشيد

يهمنا هنا بعد سرد بعض نماذج دول الرعاية في الشرق وفي الغرب ألاّ يربطها القارئ بقوة هذه الدولة أو تلك اقتصاديا فقط، باعتبار الاقتصاد المحرك الأول للأمم، والدليل، نموذج زيمبابوي الأفريقية الفقيرة التي استطاعت منذ عهد قريب -بعد تحرّرها من الاستعمار البريطاني سنة 1965- تحقيق ارتفاعات ملموسة في مؤشرات التنمية على أكثر من صعيد؛ من ثمَّ لا يمكن بأي حال من الأحوال تسويغ التقتير والبخل على الشعوب، والتضييق على أرزاقهم ومعايشهم بحجة الدولة "الفقيرة" أو بذريعة قلة الثروات والأرض التي شحت مواردها، فهذا لعمري عذر أقبح من زلة وداهية ما لها من واهية.

 

فقد أشار المؤرخان الاقتصاديان دارون أسيموجلو و جيمس أ.روبنسون في كتابهما "لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر"، مؤكديْن بشكل واضح أن الجغرافيا أو الثقافة أو عدد السكان أو طبيعة الأرض أو عقيدة الأجداد لا يمكن أن تكون أسبابا موضوعية لترفع دولة ما يافطة فشل شامل، مبررة موقفها ذاك بكون ما سِيقَ من معطيات طبيعية أو تاريخية أقدار محتومة نزلت من السماء، ولا يمكن تلافيها! بل إن "السياسات الحمقاء" المنتهجة من قبل الحكومات والمؤسسات هي ما يجعل هذه الدولة أو تلك فقيرة أو غنية، دون الحاجة إلى التحجّج بسرديّات صبيانية لا يصدقها أحد.

وعليه، لا يبدو من اللائق أخلاقيا واجتماعيا ودينيا أن يظل إنسان الألفية الثالثة صارخا في بئر مُعطَّلة يستجدي ويتسول رغيفا لبنيه أمام بُرج فخم وقصر مشيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.