شعار قسم مدونات

غُربة كتاب

ميدان - القرآن
حينما تنفرِدُ بك ذاتُك، لا شيءَ يُلهيك ولا شيء يجذبُك، تقف بالمنتصف حائراً لا تدري لماذا كلُّ هذه العبثية والأهواء، وتبحثُ عن شيءٍ يخرجُك من سرابك ولا شيء يُعينُك، وتدرك حينها أنك بحاجةٍ لنورٍ يعيد إليك روحك المسلوبة، ووهج قلبك، ويُسكِن أنين جوارحك، فحتماً أدركْت حاجتك للقرآن، ثم تُلقي كلَّ أحمالك على عجلٍ دون وَجَل، فالوقت يداهمك وكأنّ القرآن أصبح طوق النجاة أمام الأمواج العاتية، فتُسلِّم نفسك وكُلك يقينٌ أن شراع سفينتك سيقودك لشط النجاة فلا عاصم لك اليوم إلا بغُربةِ كتابٍ أصبح يوضعُ على رفوفٍ مهجورةٍ يكسوها الغبار وتفوح منه رائحة الهجران.

أصبح القرآن غريباً حيثُ يُتلى كأن شيئاً لم يكن وكأنّ روحَه لم تُداعب طيفنا، غربةُ كتابٍ كان من المفترض أن يكون منهجاً ونبراساً نوقد منه شعلة تواجدنا، ثم نؤمن أننا نرى حقيقة الحياة من خلال عيونه. وكم نهتم بكلام البشر أكثر من اهتمامنا بكلام الله ناسين أن صلاح حالنا لن يكون إلا به، فهل يُغني كلام الناس عنه؟! أم أننا أصبحنا نستثقلُ كلامه معبِّرين عن امتعاضِنا الشديد للغتنا الفصيحة التي ما عُدنا نفقه منها إلا القليل، وكأن القرآن أصبح أُحجية الكلمات والمعاني فنستبدله بكلام الناس المعسول المبطن بما ترضاه قلوبنا وتستسيغه عقولنا.

من رحمة الله بنا أن أنزل علينا كلامه ويسّره ليكون دستور نجاةٍ وملجأً لنا من غياهب الجُبّ، نشعرُ بروحه ونستظل بظله ونستنيرُ بعلمه وفيض عطائه. فلنكُن ربانيين بحق.

ثمّ نستبدل كتاب الله بكتاب البشر فنلجأُ لقراءة ما هبَّ ودبَّ من الكتب وفي كافة مستويات الحياة، الكتاب تلو الآخر والرواية تلو الأخرى دون أن نأبه أو يَرفّ طرفُ أعيننا لكتاب الله الذي خلقنا وأودع فينا الحياة وأكرمنا بالعقل وأنعم علينا بما لا تتصوره أعيننا، وبكلّ بساطةٍ نغفلُ عن كتابه أو نمرُّ على آياته كلمح البصر فلا تُحرك فينا ساكناً ولا نجد ضالتنا، ظناً منا أن حروفه كالسحر عليها أن تُخرجنا من حالة الهلع والولع دون أن نُلقي بالاً لمعاني القرآن وفحواه، ونحاول جاهدين ترقيق قلوبنا وتدبير أمورنا بعيداً عن أُنس القرآن ودون أن نأبه لقبس نوره، فنركنُ لكلام البشر كي نُرضي تأنيب ضمائرنا ونوهمُ ظمأنا بماء الزلال!

ننكَبُ على القرآن حينما تُفجعنا الحياة بالفقد، أو الخوف، أو القلق، فنهرعُ إليه ونستمسكُ به دون تأملٍ أو تدبر، ويبدأ القارئ بتلاوة بضعٍ من الآيات وكأنه يخاطبُ نفسه فلا أحد يلقي قلبه وعقله على آيات الله، وكلٌّ سارحٌ في دنياه أو مشغولٌ بعبثية الكلام، وهكذا أكسبنا القرآن صفة العزاء فلا نجده يُتلى كشيءٍ اعتيادي أو حينما نستبشر بالدنيا خيراً، فحالنا معه كحال الحمار يحملُ أسفارا، لا نقرأ منه سوى تتابع حروف نُسْكت من خلالها تأنيبَ ضمائرنا لهجره.

قوة القرآن وتأثيره علينا يكمن في مدى فهمنا وتدبرنا لآياته وليس بمقدار تكرارها، ولو أنّ كلام الله أُنزِل على جبلٍ لخشع من عمق معانيه وتأثيرها عليه (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أيخشع الجبل ولا نخشع نحن؟! أيتشقق الجبل ولا تنفطر قلوبنا لسماعه؟! عجباً من أمرنا وقد تميزنا بالعقل، وتميزنا بالقدرة على فهم ما وراء السطور والتحليل والتدقيق لعُمق الخطاب القرآني الذي يخاطب العقول والقلوب، ويستجديها لما تحمله من رسائل ربانيةٍ تعينه على فقه الحياة ونوائب الدهر، فهو قرآنٌ مجيد، عظيمُ المعاني، قوي الأثر، فيه أحسنَ القصص وحديثه لا يشبه كلام البشر، ومدادُ كلامه لا ينفد (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).

فمن رحمة الله بنا أن أنزل علينا كلامه ويسّره ليكون دستور نجاةٍ وملجأً لنا من غياهب الجُبّ، نشعرُ بروحه ونستظل بظله ونستنيرُ بعلمه وفيض عطائه. فلنكُن ربانيين بحق، نلجأ لله في السراء والضراء، وحينما تَدْلهم علينا دروب الحياة ويسكُن الخوف واليأس قلوبنا، وحينما ننتصر ونحقق شغفاً وحلماً راودَنا وأنهك تفكيرنا، لنكُن ربانيين نقرأ الكتاب بحرص، ونتدبرُ معانيه بعمق، ونخشع في تلاوته وننهم من علمه ما يُشبع نفوسنا التواقة للحقيقة (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ).

يبدأ القارئ بتلاوة بضعٍ من الآيات وكأنه يخاطبُ نفسه! فلا أحد يلقي قلبه وعقله إلى آيات الله، وكلٌّ سارحٌ في دنياه أو مشغولٌ بعبثية الكلام.

وكما قال احد السلف: (اجعَلِ القرآنَ مَفْزَعَك الذي تَلجأ إليه، وحِصنَك الذي به تَعتصم، وكهْفَك الذي إليه تأوي، ودليلَك الذي به تهتدي، وشعارَك ودِثارَك، ومتهجدك وسبيلَك، وإذا التبسَتْ عليك الطُّرقُ، وصِرتَ في ضيقٍ مِن أمرك، فارجع إلى القرآن الذي لا حيرةَ فيه، فقِفْ على دلائله مِن الترغيب والترهيب، والوعدِ والتَّشويق إلى ما ندَب الله إليه المؤمنين مِن الطاعة وترك المعصية فإنَّك تخرُج من حيرتك، وترجع عن جَهالتك، وتأنَسُ بعد وَحْشتك، وتقوى بعد ضعفك، فليكن دليلَك دون المخلوقين، تفُز مع الفائزين).

فلنحافظ على وِردٍ يومي يُشفي قسوة قلوبنا وضيق صدورنا وغلبةِ همومنا، وِردٌ ننهلُ منه بأُذُنٍ صاغيةٍ وعقولٍ نيّرة، وليكُن لنا اتصالٌ دائمٌ بالقرآن نُكثرُ من خلاله بركة يومنا، فلا تمرّ علينا الأيام بلياليها هاجرين له غير مدركين رحمة الله بإنزال كلامه علينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.