شعار قسم مدونات

هؤلاء تمردوا على النبي

blogs الحركات الإسلامية
حينما تعالت أسوار التنظيم داخل بعض الجماعات الإسلامية وأصبح النقد قدحا في القيادة، وخطأ يستوجب وضع علامات على قائله تصاحبه في طريقه لباب الخروج من التنظيم، لتجلس القيادات بأريحية تحيك ثوب الفشل الزاهي لتلبسه للحركة الإسلامية، أصبح لزاماً علينا استدعاء ذلك "التمرد" التاريخي على النبي الأكرم.
نستدعي من التاريخ ذلك المشهد الذي رُفعت فيه راية التمرد في معسكر الصحابة أمام رأيي النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، نموذجٌ لا تستدعيه الجماعات الإسلامية، خاصة الحركية منها، إلا لتستقطع منه مشهد النهاية الذي سمع الجميع فيه وأطاع، في حين تُسقط عمداً تفاعلات البدايات وقوتها وذروة الأحداث فيها.

هو النبي لا كذب، لكنه كذلك لا يقود قطيعاً من الغنم، بعض الأحداث يحتاج البشر فيها إلى تأكيد يراعي محدودية العلم وطبيعة النفس البشرية التي تتوق دائماً للتفسيرات المنطقية للأحداث حتى لو كانت الأوامر نبوية!

خرج الصحابة في أحداث صلح الحديبية قاصدين البيت الحرام معتمرين غير مقاتلين، لكن الأحداث التي تسارعت منذ خروجهم وإصرار قريش على صدّهم صعّدت الأمور سريعاً لينقلب الأمر إلى مشهدٍ درامي استشهادي يبايع فيه الصحابة قائدهم تحت الشجرة على الموت! وسط حالة التعبئة العامة تلك جاءت الأوامر من القيادة في اليوم التالي غير ذلك "سنعقد صلحا"! بدأت وفود التفاوض في التردد على الخيمة النبوية التي تعلقت بها أعين الصحابة، وبدأت أخبار التفاوض تتناثر في المعسكر النبوي، بدا المعسكر منقسما أمام بنود الصلح التي وافق عليها النبي صلي الله عليه وسلم، وبدا النبي وحيدا وسط حالة تشبه "التمرد" التي افتتحها علي رضي الله عنه برفضه الاستمرار في كتابة المعاهدة والتعديل عليها، استوعب النبي الموقف وقام بحذف العبارات بنفسه، وخلفة وقوف أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما كان دائما في صف صديقه مسلّما مستوعباً لما يحدث.

موقف عمر لم يكن فردياً وأن ثمة حالة حقيقية من التمرد ضربت معسكر الصحابة في ذلك اليوم، القائد _النبي_ يخرج من خيمته ليعطي أمراً مباشراً للجنود بخلع ملابس الإحرام ونحر الهدي والتحلل من النسك، لكن المشهد كان درامياً إلى أقصى حد.. لا أحد يمتثل لتلك الأوامر!

وغير بعيد من طاولة المفاوضات كانت الدماء تغلي في عروق عمر بن الخطاب غضباً مما رآه "شروطاً إذلالية" تلك التي وافق عليها النبي! فتوجه إلى النبي ودار بينهما حوار حري أن يدّرس في مدى قبول النقد والمحاسبة بين القيادة والأفراد، بدأ عمر الحوار بسؤال استفهامي حاد:
– ألست نبي الله حقا؟!
– فيرد النبي باقتضاب: بلى!
– ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
– النبي: بلى!
– فيتساءل عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟

يأتي جواب النبي حازماً لا يفتح بابا للمناقشة: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
كانت رغبة عمر أقوى حتى من أن يمتثل لغلق باب المناقشة، فاستمر في تساؤلاته الحادة: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
– يرد النبي بصبر: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟
– عمر: لا
– النبي: فإنك آتيه ومطوف به.

لم يهدئ رد النبي صلي الله عليه وسلم عمر بالرغم من ذلك التأكيد الحازم، فتوجه عمر إلى أبي بكر مكرراً ذات الأسئلة التي سألها للنبي فختم أبو بكر لقائه بعمر قائلا: إنه رسول الله وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه. 

تلك المقولة هي المشهد الأبرز الذي طالما تُصدره أدبيات الجماعات الحركية في السمع والطاعة جاعلين موقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعلو فوق موقف عمر! رغم أن النبي ذاته لم ينكر على عمر تساؤلاته ولا رغبته في الاستفهام ومعرفة خلفية تلك القرارات، لكن الرغبة الدائمة لدى حراس بوابة التنظيم هي تعظيم نموذج السمع والطاعة، وإغفال نماذج النقد والمناقشة وحتى الجدال.

لكن تلك الأدبيات أغلفت كذلك أن موقف عمر لم يكن فردياً وأن ثمة حالة حقيقية من التمرد ضربت معسكر الصحابة في ذلك اليوم، القائد _النبي_ يخرج من خيمته ليعطي أمراً مباشراً للجنود بخلع ملابس الإحرام ونحر الهدي والتحلل من النسك، لكن المشهد كان درامياً إلى أقصى حد.. لا أحد يمتثل لتلك الأوامر! يكرر النبي الأمر ولا أحد يمتثل، فلا يجد أمامه إلا أن يدخل خيمته غاضباً متمتماً (هلك المسلمون، أمرتهم فلم يمتثلوا)! تسمعه زوجته أم سلمه فتواسيه وتشير عليه قائلة: (يا رسول الله اعذرهم، فقد حَمّلت نفسك أمراً عظيماً في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت اتبعوك)، فخرج النبي صامتا، فنحر الهدي ودعا حلاقه فحلق. وهنا استفاق المسلمون من حالة التمرد وتسابقوا إلى فعل مثله، ولكنهم مع ذلك رجعوا وهم مهمومون من غير فتح.

تلك المجموعات اليوم التي تقف عاجزة عن أن تأخذ زمام المبادرة وسط تغييب قادتها في السجون، وهي ذات المجموعات التي استفاقت على كوابيس الواقع الأليم بعد أن انقشع غبار الوهم الذي عاشوه لفترة من الزمن مطمئنين لإخوانهم (اللي فوق).

يغلق المشهد عند هذه اللحظة التي انتهى فيها تمرد معسكر الصحابة بالامتثال للأمر النبوي، وتكون السنوات القلائل التالية كفيلة بأن توضح للمسلمين صواب القرارات النبوية بل وجعلها سبباً في عودتهم لمكة فاتحين.

لكن المشهد لم يُغلق لدى هؤلاء الذي أرادوا لتلك القصة أن تكون نموذجاً لامتثال الجنود للقائد ولم يروا فيها نموذجاً لأحقية الجندي في النقد والاستيضاح وحتى الامتناع عن تنفيذ القرار، وإن صدر من النبي!
حق لم يصادره النبي لا بسلطته الدينية ولا السياسية، فلم يأمر يقطع رقبة عمر الذي تصدر المشهد، ولا استصدر قرارات فصل أو نفي للمخالفين، ولا حتى أضمر لهم شراً إلى حين!

إن من أعظم الجرم الذي اقترفته التنظيمات الإسلامية وأدبياتها التربوية أنها خلقت أجيالا بشرية تحاكي "الريبوت" تشبه بعضها بعضا في الحديث والتفكير والقرارات، بل يصل التشابه إلى الملبس أحيانا! أجيال فرضت عليها تغذية ثقافية محددة المعالم سلفاً محدثة حالة من الأمية لدى طبقة ينظر إليها على أنه من صفوة المجتمع المتعلم.

تلك المجموعات اليوم التي تقف عاجزة عن أن تأخذ زمام المبادرة وسط تغييب قادتها في السجون، وهي ذات المجموعات التي استفاقت على كوابيس الواقع الأليم بعد أن انقشع غبار الوهم الذي عاشوه لفترة من الزمن مطمئنين لإخوانهم (اللي فوق) الذي يعرفون كل شاردة وواردة، والأمل اليوم في جيل يتربى على التمرد ويرفع رايات الاستفهام ويعلي قيمة المحاسبة والفهم على الثقة والطاعة العمياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.