شعار قسم مدونات

مثقف السلطة الشكلي.. ومثقف الثورة الذي نريد

blogs- الثقافة

المثقف اصطلاحا هو ناقد اجتماعي همه أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق أمام بلوغ نظام اجتماعي أكثر إنسانية وعقلانية. يبدو هذا التعريف قريبا من موضوعنا من حيث ارتباطه بالثورة التي تهدف في المقام الأول لتغيير بنية المجتمع وتركيبته ولكن الحقيقة أنه توجد عدة تعريفات للمثقف مما يجعل المجال مفتوحا لمن يريد أن يضع تعريفا خاص به. والمثقف في رأيي هو الشخص الذي يسعى دائبا للتعرف على الحياة لا أن يحياها فقط كما يتفق له، وذلك على أرضية من الواقعية الصارمة التي لا يؤثر فيها ما يراه الناس ولا النماذج سابقة التجهيز التي تلقن للإنسان في بداية حياته عن كل المفاهيم والأحداث والأشياء.

 

وتلك النماذج لا تمثل عمادا للحياة في أي مجتمع كما تفعل في مجتمعات العرب والمسلمين فسابقية التجهيز البعيدة عن الواقع هي العنصر الطاغي على تكون نظرة العرب للحياة في كل شيء تقريبا ومن هنا فعلى أساس التعريف سابق الذكر يصبح التعرف على الحياة بالنسبة للمثقف العربي ونشر هذه المعرفة عملية ثورية ويصبح المثقف العربي ثوري بالضرورة. لدى العرب تعريف خاص للحرية والثورة والكرامة والديموقراطية والحكومة والسيادة والسلام والحرب والتاريخ والوطن بل والحياة، وهذا التعريف مختلف بشكل جوهري عما تعنيه كل كلمة في الحقيقة لدى باقي البشركما يعرفون الحق والباطل بغير ما يمثلون في الواقع. وفي عبارة أخرى ما يعرفه العرب عن الحياة حتى بما يسمى مثقفيهم لا يمت لحقيقتها في الغالب الأعم بصلة.

 

بالطبع يرتبط هذا الخلل المتمثل في انفصال التعريفات التي تتكون منها ثقافة العرب عما تمثله هذه التعريفات حقيقة ببيئة الاستبداد السياسي التي تحكم الواقع العربي والذي يفرض تعريفاته الخاصة على المجال العام فلم يعد المجتمع يعرف غيرها. وفي هذا الإطار يصبح المثقف هو الشخص الذي يصيغ تعريفات السلطة لعناصر الحياة في صور ثقافية، كتب ومقالات وأفلام ومسرحيات وغيرها وينشرها، فهو ما يمكن أن نطلق عليه المثقف الشكلي أي الذي يقتصر تأثيره على الشكل ولا يقترب من الجوهر فيصبح خادما للسلطة لا للثقافة التي يزعم الانتماء إليها والتي تقوم ابتداء على النقد والتحليل. ومن البديهي أن تعريفات السلطة العربية الساذجة لأي مفهوم لا تصمد أبدا لأي نقد.

 

لنأخذ كمثال محمد حسنين هيكل الذي يعتبر أشهر مثقفي السلطة في عصر ما بعد استقلال الدول القطرية العربية عندما يتحدث عن الثورة. للثورة تعريف أولي ظهر مع الثورة الفرنسية وهو قيام الشعب بقيادة نخبه بتغيير نظام الحكم بالقوة. ولها تعريف معاصر هو التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية في النظام السابق لتحقيق طموحات التغيير لنظام سياسي نزيه وعادل ويوفر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع. والثورة كظاهرة في التاريخ السياسي- الناجحة منها التي أدت إلى الحرية والنهضة الحقيقية- ارتبطت دائما بمحاولة عموم الشعب التخلص من السلطة الحاكمة حتى لو لم ينجح من المرة الأولى. أما هيكل فإنه عندما يذكر كلمة الثورة في كتبه فإنه يتحدث فقط عن تحرك الجيش ضد النظام الحاكم سواء كان ملكيا أو ديموقراطيا. يذكر الثورة المصرية ليشير إلى انقلاب يوليو ضد الملك فاروق، والثورة الليبية ليشير إلى انقلاب القذافي ضد الملك إدريس السنوسي والثورة السورية ليصف انقلابا في سورية والثورة العراقية ليصف انقلاب البعث في العراق وهكذا.

 

لم يخل التاريخ العربي من مثقفي الثورة ولكنهم لم يأخذوا أي فرصة للاتصال بمجتمعاتهم إذ غيبتهم السجون أعواما طويلة أو اقتطفتهم المشانق بينما ظل نموذج السلطة الثقافي بكل عناصره مهيمنا على الوعي العربي.

غير أن الانقلاب العسكري يجب أن يتصف بصفة مهمة حتى يستحق لقب الثورة لدى هيكل وهو أن يكون مواليا لسلطة جمال عبد الناصر في مصر وإلا كان انقلابا لا ثورة كما يلاحظ بسهولة من يطلع على كتبه. لقد أدت كل حركة وصفها هيكل بالثورة إلى نظام عسكري وحشي مستبد فاسد سلب الشعب حقه في الحرية والنهضة بل والحياة وهذا عكس ما يعرفه الناس عن الثورة. ولم يتوقف هيكل بالنقد أمام حقيقة ارتباط اللقب الذي ترغب السلطة الحاكمة في إطلاقه على حركتها بجوهر اللقب وتعريفه وإنما صاغه كتبا مبهرة ساهمت في تشويه الوعي الجمعي العربي على مدى ما يزيد على نصف القرن ليقدم أوضح مثال لمثقف السلطة الشكلي.

 

بالتأكيد لم يخل التاريخ العربي من مثقفي الثورة ولكنهم لم يأخذوا أي فرصة للاتصال بمجتمعاتهم إذ غيبتهم السجون أعواما طويلة أو اقتطفتهم المشانق بينما ظل نموذج السلطة الثقافي بكل عناصره مهيمنا على الوعي العربي. وفي عصر مجالات التواصل المفتوحة وفرصها اللامحدودة بشكل غير مسبوق تأتي الفرصة لإنتاج جيل من مثقفي الثورة. هذا ما نحتاجه بالضبط جيل كامل من مثقفي الثورة الذين يعملون على وضع الثقافة العربية مرة أخرى على طريق الحقيقة وهدم ثقافة السلطة الزائفة على المستوى الشعبي.

 

وهنا تكمن الصعوبة فالواقع أن المجال العام يشهد حاليا تكون نخبة من شباب مثقفي الثورة الذين يعملون إنتاجهم في أسس أصنام السلطة وأكاذيبها وأفكارها المشوهة ومفاهيمها المغلوطة ولكن ما زالت دائرتهم أضيق بكثير من أن تؤثر في الواقع العربي شديد البؤس. هذا الواقع يحتاج إلى انتفاضة تعم أرجائه لتحرره من السلطة الفاسدة التابعة للهيمنة الخارجية وهذا يجب أن يسبقه ثورة ثقافية على المستوى الشعبي تحطم كل ما أحاطت السلطة عقول العرب به من القيود. لذا فإن واجب شباب هذه النخبة حديثة التكوين أن يبذلوا مزيدا من الجهد في التواصل مع أقرانهم من الشباب حتى تتوسع قاعدة مثقفي الثورة ويصبح لدينا جيشا من دعاة الوعي يعملون داخل وحداتهم الاجتماعية الصغيرة لقلب المفاهيم الزائفة إلى حقيقية وتوجيه أنظار الناس إلى الحياة بعيدا عن الصورة الزائفة التي فرضتها السلطة. إن هذه هي الخطوة الأولى في طريق التحرير فالفرد تبع لعقله إن ظل العقل مسجونا لن ترى الأمة الحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.