شعار قسم مدونات

عن إبداع +AJ

blogs موبايل

غالبا ما كنت أستغرب، وقد بلغ بيَ الاستغراب حد الاحتجاج والسخط. كيف أن هاتفي الصغير أغلى ثمنا من شاشة البلازما؟؟ بأي منطق وبأي حق، خمسة بوصات تتفوق على خمسين؟ غريب.. لا لم يعد غريبا.. هل تعلم أن الـ "سمارت فون" كما يسمى، رغم ضآلته غني، إذ يضع المتلقي أمام سماء مفتوحة متلبِّدة بغيمٍ شتاءُ مواضيعه منوع ثري، أما ذاك البلازما فمتعالٍ مصاب بجنون العظمة يملي على الناس ويفرض عليهم ما يلتهمون فرضا. الناس اليوم تفتحت أسارير عقولهم إلى فضاء واسع من الفطنة والمعرفة، فلم يعودوا يقبلون الوصاية والحتمية.

متلازمة رمضان والبرامج التلفزيونية لا مناص منها، فهي عادة أكثر منها سلوك صاحبتنا منذ الصغر، لكن في رمضاناتٍ خلت كانت متعتنا غامرة ونحن نشاهد برامجَ شيقة تترابط فيما بينها بحبكٍ مدهشة، فترانا نجلس أمام التلفاز لساعات متعاقبة محملقةٌ أعيننا بشغف متفاعلين مع زوايا الأحداث على بساطتها، فإذا طلعت شمس الصباح جلسنا في مدارسنا لا نكف عن إعادة سرد ما شاهدنا بتأثر بالغ، كنا نتماهى قسرا دون إرادة. 

لكن اليوم صرنا إلى نفور تام، فلم نجد ما يشبع فرجتنا، لم نجد ما يذكي ثقافتنا، على الأقل في رمضان فرصة شحن الذات بثقافة دينية سمحا، لم نجد برامج دينية سلسة جذابة تعزز الأخلاق فينا، لم نُلْفي ذاك الداعية المعتدل ليروي على مسامعنا قصصًا وعبرا بأسلوب مشوق جميل.

بالله عليكم أخبروني ما الفائدة التي يخرج بها من رأى كائنات تخرج من تحت الأرض فتثير الرعب والجلبة والترويع في النفوس دونما مراعاة للمشاعر، قالوا أنه مقلب للضحك فقط إنما الأصح أنه مَبْكَى

رمضان 1438 / 2017 الكيل طافح، أعود من العمل مساءً متعبا كمن عاد لتوه من سفر شاق، أستلقي على السرير المقابل لشاشة البلازما التي حدثتكم عنها، أتجول بين أروقتها التي لا تنتهي، أمعن النظر كمن يفتش عن إبرة وسط التبن، فمن المستحيل أن يجدها. معقول أن كل ما يبث لم يشدني إلا ما ندر؟ ربما الخلل فيَّ كامن؟ أو ربما ذوقي منعدم؟ هل خان التلفزيون العهد الذي بيننا؟ خيبة الأمل الأخيرة، مسلسل باب الحارة الذي كنت مولعا به في وقت مضى، مضى هو الآخر فغدا بلا معنى ولا شوق، بل وراحت اللهفة التي طالما جمعتني به.

كان العنوان والدعاية قد شداني فأبيت في قرارة نفسي إلا أن أتابع المسلسل بتفاصيله، غرابيب سود هو فعلا هكذا، له من اسمه نصيب فالسواد يكتنفه بامتياز، أطلقت حكما مسبقا لمجرد مرور بسيط على مشاهده الأولى، لكن حدسي لم يخني أبدا. بالله عليكم أخبروني ما الفائدة التي يخرج بها من رأى كائنات تخرج من تحت الأرض فتثير الرعب والجلبة والترويع في النفوس دونما مراعاة للمشاعر، قالوا أنه مقلب للضحك فقط إنما الأصح أنه مَبْكَى، مبكى لأن القوم أتاحوا ليأجوج ومأجوج فرصة استكمال الحفر والطلوع من تحت الأرض إلى فوقها (بالمعنى القريب والبعيد) فقد طلع رامز من تحت الأرض إلى عقول الفارغين.

في الجزائر يُلام التلفزيون الحكومي وحده في هذه المسألة (ميزانيةٌ ضخمةٌ ومشهدٌ معدوم الإبداع والنفع) أكثر من خمسين سنة من الوجود قصمت ظهره قنوات عمرها خمس سنوات فقط على الأكثر، هنا أصبح النزال بلازما ضد بلازما.

تغيرت القناعات لديَّ وأصبحت راضيا كل الرضا بالنصر المبين لجهازٍ أصم على شاشة تكبره بعشرة أضعاف فليست العبرة بكبر الحجم بقدر ما هي بحجم الأفكار، وليست الثورة إلا نَفَسًا جديدا يكرس مفهوم "البقاء للمبتكر المبدع"

الحمد لله على نعمة اليوتيوب، لم أكن أعلم أن ضالتي هنالك، كنت قبل كتابة هذا المقال بدقائق هائما في دنيا الشعر أعيد مشاهدة حلقات فصاحة وأستعيد شتات الإبداع. إلى وقت قريب لامس قلبي إبداعا آخراً في صفحة _آي جي بلاس عربي_ فبِتُّ مهووسا بها ثم أدرجتها في عاداتي اليومية، ربما لأنها تشبهني كثيرا، ربما لأنها شغفي فما يطهى فيها قريب في السمات والملامح مما أطبخ من التقارير والمواضيع الخفيفة العذبة عدُوَّةِ التقليد، حين أجلس على هذه القناة الرقمية أحس وكأنني أجوب العالم، أتعرف على هوامش هنا وهناك، أستشعر أفكارا طغى عليها الابتكار وتجبر.

مذ إبحاري بعمق في مجال صحافة الموبايل والإعلام البديل، أدركت أتم الإدراك أن الإعلام مثل الفن تماما يخضع للموضة، واحدة تقتل أخرى والبقاء للأجمل، موضة التلفزيون التي عمرت طويلا هي اليوم على شفير هلاكها، أَمَاراتُ ساعتها الصغرى قد بانت ولم يبقَ إلا طلوع شمس أخرى من المغرب، شمس إلكترون مسالم لا يحتم على الناس ما يشاهدون، ليبرئ نفسه ويضع المسؤوليات أمام الاختيار والإرادة، فكلٌّ محاسب عن خياره.

تغيرت القناعات لديَّ وأصبحت راضيا كل الرضا بالنصر المبين لجهازٍ أصم على شاشة تكبره بعشرة أضعاف فليست العبرة بكبر الحجم بقدر ما هي بحجم الأفكار، وليست الثورة إلا نَفَسًا جديدا يكرس مفهوم "البقاء للمبتكر المبدع" وتقول: "ألا بعداً لأناسٍ عاديين تقليديين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.