شعار قسم مدونات

إضاءات من معاني وقفات للعقل والروح

مدونات - كتاب

إن القارئ لصفحات كتاب "وقفات للعقل والروح" لكاتبه الدكتور عبد الكريم بكار، لا يمكن إلا أن ينوه بتنوع ما يحتويه من أفكار ومعاني جليلة، وأكثر ما يجذبك إلى الكتاب بساطة ألفاظه التي تتسرب إلى القلب بسرعة هائلة وتلقى قبولا حسنا من الطباع السوية، بالإضافة إلى الأسلوب المباشر الذي يعتمده في غالب الأحيان، وعمق أفكاره ومفاهيمه التي تلامس مختلف المواضيع.

يضم الكتاب بين دفتيه مجموعة من الأفكار النيرة التي تعطي الزاد للإنسان، وترسم له الطريق الواضح لتحقيق النموذج الإنساني المنشود، وفي الوقفة -القصيرة-التي قمت بها مع هذا الكتاب في بعض محاوره ومواضيعه، تناسلت مجموعة من الخواطر في خلدي وأنا أتصفح صفحاته واحدة تلو الأخرى، في لذة لا نظير لها، تفتح أمامك عالم الأفكار، للبسط والمناقشة. بدى لي أن أدلي بملاحظات مهمة:

النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أشار إلى أن "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" كان في حقيقة الأمر ينبه إلى أهمية المحيط في تشكيل الإنسان وصناعة قناعاته التي ستصحبه في حياته باعتبارها موجهات له.

الملاحظة الأولى: أهمية توطين الإنسان لنفسه
معناه أن يختار الإنسان ما سيكون عليه في حياته ومن أي الأصناف سينتمي، وهو ما نبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا" رواه الترميذي، فتوطين الإنسان لنفسه يحدد له البوصلة التي سيسير وفقها، أيكون من الصالحين أم من الطالحين، والكاتب أشار إلى خيرة أصناف الناس، التي يجب للإنسان أن يجتهد ليكون ضمن إحداها، وهي أصناف ينتفع منها الفرد والمجتمع ويتعدى خيرها إلى غيرها، "هم بركة الأمة ومِلحها ورواؤها، وإن من الحرمان حقا أن يجد المرء نفسه بعيدا عنهم منغمسا في هموم صغيرة ومتع زائلة".

تدور بين الإنسان الحامل للمشروع؛ وهو إنسان مؤمن بقضية وفكرة معينة، يضئ حياة الآخرين من خلالها، ويكون علما لهم على الخير والحق، والإنسان المؤسس للمشروع؛ إنسان خدوم، يدرك جيدا قيمة العمل الجماعي والمشترك، لذلك يؤسس مشروعا يكون مشرفا عليه، مع مجموعة أخرى لتعم الفائدة ولتضافر الجهود في الوصول إلى النتائج المرجوة، والإنسان المشارك؛ إنسان قد لا يملك قدرات للقيادة وتأسيس المشاريع، لكن يملك قدرات خاصة، مالية، فكرية، مهارية.. تؤهله للمشاركة في التخطيط والتنفيذ والمساهمة في إنجاح المشاريع النافعة.

الملاحظة الثانية: سلبية تعميم الأحكام القيمية
ذلك أن تعميم الأحكام القيمية على الأشياء والأشخاص من السلبيات والأدواء التي يمكن أن تصيب المرء، وقد انتشرت عند بعض الناس بشكل مهولِ جدا، وعند إمعان النظر إليها، نجدها ترجع إلى إسقاط الإنسان لتجربته الشخصية على الأحداث والأماكن والشخوص، حيث يحكم من خلالها، فيعمم الحالة والموقف وحتى النتيجة التي يمكن أن تحدث معه على الجميع. كما يرجع إلى اصدار الحكم في حالة غضب أو سرور شديدين، وذلك أن الشخص حين يمر بموقف إيجابي في منطقة معينة يصدر حكما عاما -وهو مسرور- بإيجابية المنطقة والعكس صحيح، فالمسألة كلها ترجع إلى تمثلات الأشخاص حول شيء معين، يصدرون من خلاله أحكاما عامة.

الملاحظة الثالثة: مقومات التربية السليمة
تعد تربية الأبناء إعدادا وبناء للأجيال القادمة، كونهم الخلف للسلف في الأسر والمجتمعات.. لذلك تكتسب أهمية كبرى يستدعي معها اختيار أصوب الوسائل في سبيل تحقيقها. والكاتب تكلم عن أمرين مهمين للإنسان المقبل على فعل التربية أو الممارس له من الوالدين والمدرسين وغيرهم، هما:

التغيير، أي تغير، يبدأ من الفرد ومنه تتسع الدائرة لتشمل المحيطين به فالمجتمع فالدول.. وهكذا، ومسلك ذلك الرجوع إلى النفس والاعتراف بسلبياتها، فهي بداية حقيقة لإصلاحها.

1- تعلم أدبيات تربية الأبناء بدراسة الثقافة التربوية، فكل فعل كيفما كان يحتاج إلى فلسفة تعقلنه وتضعه في مجال التطبيق السليم بعيدا عن العشوائية والفوضوية. إن التربية تحتاج إلى فهم عميق للفعل التربوي من قبل الآباء، وتعلم أساليب ذلك، وتوظيفها، تقوم على أسس سليمة ومبادئ معقولة كمبدأ التدرج والاقناع والحوار المستمر والصحبة الدائمة للأولاد، يجب أن يلمس الابن في أبيه وأمه، ذاك الصديق الذي لا يمكن أن يجده في مكان آخر، بذلك يشعر بالراحة التي تأهله إلى تقبل -باقتناع شديد- كل توجيهات الآباء. وإن من المهم الإشارة إلى أن الموجه للتربية هو التوجيهات الربانية المنصوص عليها في كثير من الآيات وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيرته وتوجيهاته.

2- اختيار البيئة السليمة لتربية الأبناء، فالمكان والبيئة المحيطة بالإنسان تشكل حيزا كبيرا في اختياراته وتوجهاته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حين أشار إلى أن "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" رواه البخاري، كان في حقيقة الأمر ينبه إلى أهمية المحيط في تشكيل الإنسان وصناعة قناعاته التي ستصحبه في حياته باعتبارها موجهات له.

الملاحظة الرابعة: ماهية الصراع الحقيقي
يعيش الإنسان تحديات كبرى في حياته، تتعلق بما هو داخلي وما هو خارجي، لكن التحدي الحقيقي الذي تكون معه المعارك الأساسية بالنسبة للأفراد والجماعات -كما تحدث عنه الكاتب- صراع من نوع آخر، صراع مع النفس، بمواجهة أهواء وأدواء الذاتية والنفس، بدأ من الشخص إلى المجتمع ككل، فجل النكسات التي تصيب الناس -غالبا- ترجع إلى المشاكل الذاتية والشخصية، ومحور التغلب عليها يبدأ من قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، سورة الرعد الآية:11.

معناه أن التغيير، أي تغير، يبدأ من الفرد ومنه تتسع الدائرة لتشمل المحيطين به فالمجتمع فالدول.. وهكذا، ومسلك ذلك الرجوع إلى النفس والاعتراف بسلبياتها، فهي بداية حقيقة لإصلاحها. ولنا في مهمة الطبيب خير قدوة، فهو يشخص المريض قبل علاجه، وبذلك يعطينا المنهج القويم الذي نسلكه لعلاج أمراضنا التي سطت على نفوسنا وأفرضت علينا صراعا مستمرا معها.

الكلمة تشكل في حياتنا دور كبير أكثر مما نتصوره، فهي مفتاح لكل شيء، لذلك كان الخطاب موجها إلى الإنسان لتهذيبها وحسن توظيفها يقول ربنا عز وجل: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا".

الملاحظة الرابعة: قوة الكلمة سلاح ذو حدين
يقول الكاتب: "بدايات الحروب كلام، وبدايات السلام كلام، وإن للغة في حياتنا دورا أكبر مما نعترف به في العادة". للكلمة -فعلاً- دور مهم في الحياة، وتدبير العلاقات بين الأفراد والجماعات، فهي البداية لكل شيء، إن خيرا "بدايات السلام كلام"، وإن شرا "بدايات الحروب كلام"، فهي سلاح ذو حدين، يرجع الدور فيها بالأساس إلى الإنسان، فيما سيوظفها، أفي ما يسعد الناس، ويفتح باب السلام والخير أمامهم، أم العكس تماما.

كم من الناس وهبهم الله سحر البيان وقوة الكلمة واستطاع بها أن يغير ويصلح، أولهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث كانت في يده رحمة وهداية للعالمين، ينتشلهم بها من ظلمات الجهل والقهر والتخلف إلى أنوار العلم والخير والحق. فالكلمة تشكل في حياتنا دور كبير أكثر مما نتصوره، فهي مفتاح لكل شيء، لذلك كان الخطاب موجها إلى الإنسان لتهذيبها وحسن توظيفها يقول ربنا عز وجل: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"، سورة البقرة الآية: 83، توجيه رباني بمعاملة الناس بلطفِ، مبدأها بالكلمة الحسنة والقول الطيب، فهي مفتاح القلوب للتراضي والمحبة وهي مفتاح لتدبير العلاقات والاختلافات، وهي في الأخير مفتاح للحياة تفتح أمام الانسان الحياة على مصراعيها.

هذا أهم ما استوقفني في مباحث هذا الكتاب الطيب، وإلا فالكتاب زاخر بحمولات فكرية وعلمية وبمعاني ثقيلة جديرة بالقراءة والتأمل، فهي إذن؛ دعوة مفتوحة: "القلوب تشيخ فأحيوها بالقراءة"، لمطالعته واستخراج درره ومناقشتها وتوسيع النظر فيها والعمل على توظيف ما جاء فيه من النصائح في الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.