شعار قسم مدونات

شتاء الغرابيب

مدونات - شتاء

في بلدة نائية بعيدة.. ذهب الفقراء إلـى الحاكم وشكوا إليه أن الشتاء قد اقـترب! وأنه متوقع كالعادة؛ رياح وأمطار شديدة، وأنهم لا يملكون بطاطين ولا غطاء، وبيوتهم بلا أسقف تقي من الشتاء، ونوافذ بلا تجليد ليمنع الأمطار والجليد، فأتى الحاكم بكل وزرائه، واجتمع بهم لدراسة المشكلة العويصة، وأمضوا ساعات طويلة في التفكير المناقشات، ثم جاء قرار الحاكم الهمام:
بأنهم قد قُرّروا: إلغاء فصل الشتاء هذا العام!
كيف ترى صنيع هذا الحاكم؟!
هل سعى بهذا القرار لحل مشكلة الشتاء؟!

الحقيقة أن فعل الحاكم هذا والذي نستغربه ونسخر منه، وهو أهل للسخرية، هو فعل الكثيرين منا حيال كثير من المشكلات الواقعية التي تأتي علينا -ربما موسميا- كما يأتي الشتاء..في شهر مضان من كل عام، تنهال البرامج والمسلسلات التي تُجسّد الصراع بين الحق والباطل، لا أقصد التجسيد التمثيلي داخل البرامج والمسلسلات، وإنما المقصود هو ذات المسلسلات والبرامج نفسها. فماذا ننتظر منهم؟ هما طريقان منذ بداية الخلق.. طريق الحق وطريق الباطل.. بينهما صراع دائم لا يتوقف، ولن يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. ومحاولة منع هذا الصراع وهذا التدافع الأبدي نوع من العبث وتضييع للجهود في غير وارد ولا مقصود.

المطر ليس هو لُب المشكلة! إنما أصل المشكلة في عراء البيت، في غياب السقف، في ثغرات النوافذ المشرَعة لكل مار، في القابلية للإضلال، في الاستجابة للاستخفاف، في الاستماع لكل ناعق، في الميل مع كل ريح!

وبما أن لكل طريق أهله؛ فكل فريق يدعو الآخر إلى طريقه وطريقته، قال الله تعالى: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" هكذا في غاية الوضوح: الله سبحانه جعل للناس من أيام دهرهم نفحات ربانية، تتضاعف فيها الأجور، وتكثر فيها معينات الخير، لماذا؟ لأنه يريد أن يتوب على الناس، فإرادته الشرعية، أي التي يحبه ويرضاه لعباده أن يتوبوا إليه فيتوب عليهم.

لكن هناك صراع وتدافع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، هناك فرق آخر! ماذا يريدون؟
يريدون أن يميل الناس عن طريق الله إلى طريقهم؛ لذلك يتخذون الشهوات طُعمًا يصطادون به الناس لينقلوهم من طريق التوبة إلى طريق الشهوات فيميلوا "وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" ثم يتفضّل الله تعالى فيُبين مراده مرة أخرى من طريقه، فيقول: "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا".

نعم؛ هذا ما يحبه سبحانه: التخفيف عن العباد؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقهم ويعلم سرهم وجهرهم، وضعفهم وقوتهم، ويفرح بتوبتهم، كما جاء في الحديث القدسي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرّب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول" (صحيح مسلم (2675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).

إذا عدنا للشتاء والأمطار!
هل تَعجَب معي من أصحاب المنزل الذين ينتظرون الأمطار حتى تأتي وتغرق بيوتهم ثم يبذلون الجهد الجهيد في الموسم -الذي يُطلب منهم فيه الأعمال المتضاعفة الأجور- فيضيعون الأوقات في رفع المياه وإلقاءها خارجًا! أليس الأولـىٰ أن يوفروا جهودهم وأوقاتهم الفاضلة، ويقوموا طوال العام بسقف منازلهم وتحصين بيوتهم ضد المطر وغيره؟! وعندها سيجلسون طول الموسم في هناء يحصدون الأجور المضاعفة دون أن يحملوا عناء رفع الأمطار وما جلبه الريح والإعصار. أليس هذا ما أصله الفقهاء -عليهم رحمة الله- في قولهم: "الدَّفع أقوى من الرَّفع"! أليس هذا هو معنى العبارة الشائعة: الوقاية خير من العلاج.

يبدأ الحل بعلاج المشكلة، بسقف المنازل، بسد الثغرات، بالتحصين ضد الاستخفاف والإضلال، بتعليم الناس الفرق بين ما يضرهم وما ينفعهم، ببيان الحق ليزهق الباطل ويُترَك، وتخفت جذوته، وتبور تجارته، وتخسر صفقته.

أين المشكلة؟!
أقول لك صراحة، المشكلة: هي أن المطر ليس هو لُب المشكلة! إنما أصل المشكلة في عراء البيت، في غياب السقف، في ثغرات النوافذ المشرَعة لكل مار، في القابلية للإضلال، في الاستجابة للاستخفاف، في الاستماع لكل ناعق، في الميل مع كل ريح! هذه هي المشكلة.. إن لم تمطر عليك قنوات الشهوات بأحجار الغرابيب، فغيرها سيمطر بأي حجر، إن ترسل برامج الإسفاف والابتذال أشعتها الحارقة على القلوب فغيرها سيرسل، إن لم يحاول العدو أن يتخطف الناس بكلاليب المسلسلات، فعدو غيره سيفعل..

هذه طبيعة المواجهة، فلا ينبغي لنا أن ننظر من عدو خيرًا، فقد بين الله لنا:
"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ". يقال فلان بطانة فلان، مُداخِل له، مُؤانِس! أليست تلك المؤانسة حاصلة على مدار الساعة أمام الشاشات التي تعمل في البيوت صباح مساء؟! وفي الحديث أن البطانة بطانتان، بطانة تأمر بالخير وتحض عليه، وبطانة تأمر بالسوء وتحض عليه (جاء هذا المعنى في الحديث عند البخاري (6611)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).

انظر أيها العاقل، هذه طبيعتهم:
– لا يألونكم خبالًا: أي لا يُقصرِّون فيما يجلب لكم الضر، والفساد إليكم.
– ودوا ما عنتم: أن يحبون لكم المشقة والتعب.
– قد بدت البغضاء من أفواههم: قد ظهر الكراهية على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة.
– ما تخفي صدورهم أكبر: وما هو مستور في صدورهم من الحسد الكامن والداء الباطن أكبر من هذا الذي بدا لكم وظهر.

إذًا.. والحل!
بداهة، يبدأ الحل بعلاج المشكلة، بسقف المنازل، بسد الثغرات، بالتحصين ضد الاستخفاف والإضلال، بتعليم الناس الفرق بين ما يضرهم وما ينفعهم، ببيان الحق ليزهق الباطل ويُترَك، وتخفت جذوته، وتبور تجارته، وتخسر صفقته. بالبناء في مقابل الهدم، بالتعليم في مقابل التجهيل، بالإصلاح في مقابل الإفساد، بالمدافعة المستمرة بين الحق والباطل، بالتوحيد في مقابل الشرك، بعدم اليأس من الخير، بالصبر على الثمرة، بالمتابعة المستمرة لمؤشر الإيمان، بالتواصي بالحق والصبر والمرحمة..، وهكذا!.

لا بد أن نغضب، ولكن ينبغي أن يكون هذا الغضب لَبِنة لتحصين العقول والقلوب وتـمتين اليقين بالله رب العالمين، في ترتيب بيتنا الداخلي ليكون عصيًّا على الاختراق والإغراق بأمطار الشهوات والشبهات.

ما أريد التأكيد عليه: إننا مهما نبذل من جهد في الرد على الأفكار والشبهات الجزئية التي تلقيها علينا وسائل الإعلام والمسلسلات والبرامج وغيرها، فإن هذه الجهود سيضيع أكثرها هباء؛ لأننا بلا سقف، بلا غطاء إيماني يحمينا من قذائف الباطل، لأننا لم نقوِّ مناعتنا ضد أمراض الاستخفاف وعدوى الإضلال والاستماع لكل مُغرِض حاقِد.

لا بد من بذل الجهود، ولكن في الاتجاه الصحيح..
لا بد من مقاومة الهدم، ولكن بالبناء الصريح..
لا بد أن نغضب، ولكن ينبغي أن يكون هذا الغضب لَبِنة لتحصين العقول والقلوب وتـمتين اليقين بالله رب العالمين، في ترتيب بيتنا الداخلي ليكون عصيًّا على الاختراق والإغراق بأمطار الشهوات والشبهات، وحينها لا نحتاج أن نتوقف عند كل قذيفة ترسلها الوسائل المختلفة.

"أنها معركة لا خيار فيها، ولا يملك الحق ألّا يخوضها في وجه الباطل؛ لأن الباطل سيهاجمه، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه.. وغفلة- أيُّ غفلة!- أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف وأنهم يملكون تجنب المعركة وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة" (ظلال القرآن 2/926).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.