شعار قسم مدونات

هل ستقتلنا السياسة؟

blogs شطرنج

هل يمكننا العيش من دون ممارسة السياسة أم أننا أصبحنا مكرهين عليها؟ لطالما طرحت هذا السؤال على نفسي مرارا وتكرارا وازداد هذا التساؤل مؤخرا مع انتشار الوعي الجمعي لدى المجتمعات العربية وظهور حمى التدافع بين الطبقة السياسية باختلاف مشاربها وإيديولوجياتها نحو الحكم والظفر بالمقاعد النيابية طمعا في ركوب موجة الحراك الشعبي.

ربما أجد نفسي أخالف السائد وأنحاز إلى صف من ينادون بالتخصص والتركيز على النوعية في الطبقة السياسية، وأن يتوجه كل واحد منا إلى إعمال فكره إما في الفن، الاقتصاد، العلوم الهندسية والبيولوجية أو العلوم الشرعية خدمة لمشروع أسمى وترك السياسة لأهلها ليس زهدا فيها وإنما احتراماً لها ولدورها الذي يتطلب فئة مميزة، فقد أعيتنا المهازل والطوام التي يقترفها أشباه الساسة والمفكرين وكذا بعض رجال الدين.

لم ينجُ من تيار السياسة الجارف لا الطبيب والمهندس ولا حتى الإمام والأستاذ… الكل يريد امتهان السياسة دون معرفة بأدنى أبجدياتها، إما طمعا في مغنم آجل أو اغترارا برصيده المهني للحصول على مكانة اجتماعية أكبر، ومنهم من هم بحق مخلصون لخدمة من يناصرونهم. 
 

المحافظة على لحمة المجتمع وتقديم خدمات له في ظل العجز الموجود في نقص تغطية المجالات حيوية، هو أمر واجب على النخبة وأولى من الغرق في عالم ليسوا برواده.

ربما يقول قائل بأنك تضخم مسألة المشاركة السياسية للنخب، فكل الإحصائيات والمؤشرات الميدانية تشير إلى عزوف بالجملة. نعم هناك عزوف وخاصة في فئة الشباب، ولكني في هذا المقال أتحدث عن الفئات المؤثرة في المجتمع والتي تمارس السياسة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة باستعمالها في بعض المحطات السياسية ؛ أتكلم عن فئة الشباب التي لديها طموح في خدمة بلدها وتظن أو لم تجد غير باب السياسة لتحقيقه، أتحدث عن من يمكنهم أن يكونوا مشاريع رموز وطنية أو منارات علمية وثقافية ويتم استغلالهم لملء رصيد فصيل سياسي ما، أتحصر على الدعاة والأئمة الأفاضل الذين يجز بهم عن قصد أو عن غفلة في ميدان السياسة كمترشحين أو كأدوات لتلميع صورة باستغلال مكانتهم الاجتماعية وقدسية ما يحملونه من علم.

يا ترى ما الذي سنربحه لو تركنا ممارستها لأهلها واشتغل كل واحد منا في تخصصه وبرع فيه؟ لطالما تحدثنا ونظمنا ملتقيات حول هجرة العقول إلى خارج أوطانها ومدى خسارة الدولة لهذه الطاقات وتحسرها على حجم الإنفاق المادي عليها، وقد رصدت عدة آليات وقوانين للحد من هذه الظاهرة ولكننا لم ننتبه ولو لمرة لحجم نزيف الكفاءات ومن لديهم قبول اجتماعي في عالم السياسة الذي ربما سيمتص كفاءتهم ويفقدهم تلك المصداقية التي كسبوها سابقا. المحافظة على لحمة المجتمع وتقديم خدمات له في ظل العجز الموجود في نقص تغطية المجالات حيوية، هو أمر واجب على النخبة وأولى من الغرق في عالم ليسوا برواده. 

ليس كما يعتقد كثير ممن دخل معترك السياسة وهو مقصرٌ في تخصصه المهني، بأن المواطن البسيط سينسى وسيعذره على ما هو واجب منه في عمله، فالبشر بطبعهم يتناسون التاريخ ويغرقون في الحاضر مما سيقتر من حق هؤلاء النخبة الطيبة. بالرغم من كل هذا، هنالك من له القدرة على التّميّز في العمل والنجاح بالنضال السياسي … نعم يوجد مساحات من التشابك (بين السياسة والتخصصات الأخرى) لكن يجب أن نحدّدها ونعمل على تمايزها ولا نغفل عنها.
 

الحصيلة المُرّة، أن السياسة قضت على الكثير من الطاقات والرموز بمساهمتها في قتل جانب كبير من إبداعها وحريتها في التفكير، وكذا بإقحامنا لها في سِجالات مقيتة زادت من حجم الشرخ في مجتمعاتنا.

لقد فقدنا خيرة المهندسين، الفنانين، الأطباء وعلماء دين وحتى رياضيين كانوا من الممكن أن يكونوا وعاءًا جامعا وصوتا ناصحا ونماذج صافية من الاصطفاف الحزبي. ففي ظل غياب الثقة وروح المسؤولية، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شخصيات جامعة ومحايدة لها من الكفاءة والمهنية والقبول الاجتماعي ما يؤهلها لان تعيد الأمل لهذا الشعب الذي فقد الثقة في مؤسسات المجتمع المدني وحتى في الأفراد الذين لا يزالون بعيدين عن السياسة. فما ذنب العلم، الفن، الكرة، المنابر، المستشفيات والعمل الخيري أن يهرب منه رواده ومحبوه بسبب الحسابات السياسية الضيقة والاستقطاب الذي من الممكن أن احرق كل شيء جميل.

 

الحصيلة المُرّة، أن السياسة قضت على الكثير من الطاقات والرموز بمساهمتها في قتل جانب كبير من إبداعها وحريتها في التفكير، وكذا بإقحامنا لها في سِجالات مقيتة زادت من حجم الشرخ في مجتمعاتنا. وفي المجمل لم يستفد من هذا الوضع إلا دعاة التشتت والمستثمرين في هذا الشرخ الذي يزداد يوما بعد يوم، فلم يسلم من إغراءات السياسة إلا من خلق لأجلها!

نحن نحتاج لان نوجه هذه النخب والكفاءات العلمية والدينية إلى تفعيل ساحة العمل الخيري وتطعيم جمعيات المجتمع المدني وبعث الحركة الفكرية والعلمية التي يندى لها الجبين، لكيلا نترك الفراغ للأفكار الهدامة تعصف باستقرار الوطن ووحدة الأمة ولبيئة تخرج أشباه المثقفين الذين سيصبحون وبال على أمتهم أكثر من جهالها. فلو قمنا بإحصاء لعدد الجمعيات الوطنية وحتى المحلية الفاعلة نجد الساحة فقيرة جدا بهم وهذا لكيلا نتكلم على المؤسسات الفكرية والدينية المتخصصة لتكوين النخب كما هو موجود في العديد من مدن العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.