شعار قسم مدونات

ما أخذ إلا ليعطي

blogs هبة الشرفا

حالة الذهول التي ترتابني في كل مرة أقرأ أو أسمع فيها عن معجزة ربانية وضعها الله في خلقه العاجزين بنظرنا الأغنياء عند الله! متلازمة داون التي طالما أذهلنا مصابوها بإقبالهم الزهيد للحياة الذي أتمناه لنفسي شخصيا، وكيف يكون لإنسان ناقص -بنظرننا- ذاك الحب الشغوف للحياة الذي يجعله يصر على إثبات أنه واحد مثلنا بل أكثر!

مادلين ستيوارت عارضة الأزياء الأسترالية المصابة بمتلازمة داون أثبتت للكوكب بأكمله ولنفسي بداية بأن الأحلام لا تقف على ظرف ولا مرض ولا شخص ولا ضعف بدني حتى! جاهدت طويلا لتحظى بجسم رشيق يليق بعارضة أزياء حتى باتت عارضة أزياء في أهم العروض العالمية؛ وقد يأتي على بال أحدهم أن دور الأزياء التي استقبلت مادلين كعارضة أزياء مصابة ما قامت بذلك إلا استغلالا لإصابتها لتقوم بضرب إنساني أو كدعاية إعلامية لها لجذب الأنظار لها.

 

ولكن إن رمينا كل تلك النظرات قصيرة المدى خارجا وإن لم نعبث بنوايا أي أحد ونظرنا فقط إلى شغف مادلين وهي على منصة العرض! وإن لم تبحث على "يوتيوب" لترى واحد من تلك العروض فقد ضيعت نصف عمرك حتما، ضيعت الكثير من الأمل والحب والفرح في عينيها وهي تمشي على المنصة؛ لفتت نظري شخصيا أكثر من أي عارضة أخرى سليمة كاملة بنظر المجتمع.

يا ابن آدم ما تلك إلا رسالة لك أن الله "ما أخذ إلا ليعطي"، ما أخذ من جسد إلا ليعطي من أمل، وما أخذ من راحة بال إلا ليعطي فرجا تناله نفسك جزاء صبرها وسعيها! فقط لا تترك الدنيا لتتملك منك، وابحث عن الأمل ولا تنتظره

ولقصة أخرى لبطلة عربية هذه المرة؛ هبة الشرفا أول معلمة مصابة بمتلازمة داون في غزة، تعطي درس لكل شخص منا يقف أمام عقبات الحياة مكتوف الأيدي ينتظر فرج الله أن يأتي إليه وحده دون أن يسعى إليه حتى! إلى لورين بوتر بدور بيكي في المسلسل الأمريكي الشهير."Glee". والقصص كثيرة لا تكاد تنتهي ليس فقط أمام المصابي بمتلازمة داون ولكن بمختلف إصابات الإعاقة البدنية أو الذهنية؛ التي يعتقد أي شخص سليم منا أنها قد تشل حياة الإنسان كليا وسيقف ينتظر موته فقط.

تلقننا درسا بالأمل اللامنتهي وبالعزم والإرادة القوية، يقف أحدهم بكامل قواه أمام نظرة المجتمع الفقيرة القصيرة وأمام كلماتهم الراجمة.. قد يرى أحدهم أن ليس لمصاب الحق بالحياة لأن شخص سليم آخر أحق بما لديه من حقوق حياة؛ كعمل وتعليم وأولويات حياة، ونظرا لأن المصابين بإعاقة ما يتطلبون رعاية أجدى من غيرهم.

عندما تعجزني ظروف حياتي، تضعفني وتكسرني. أول ما يخطر على بالي أن الله يكرهني أو أنه يعاقبني ولا أخجل من تلك الفطرة البشرية الفقيرة، ما الذي فعلته في حياتي ليجازيني الله بكل تلك الهموم، ولماذا كل شيء يذهب عكس الطريق الذي أسعى فيه؟، وأسئلة وجودية كثيرة قد تكون كفرا لكنها خطرت على بال أحدهم يوما ما عندما انهالت عليه هموم الحياة ليقف عاجزا أمامها تتملك منه ومما لديه من أمل وقوة.

 

إن كنت أنا السليمة عقلا وجسدا أعتقد أن الله يكرهني ليجازيني بهمومي فما بال من حياته قصيرة وأيامه معدودة؛ إذ نخر المرض جسده خلية خلية مذ اللحظة التي ولد فيها! أيكرهه الله قبل أن يولد؟ وكيف يكره الله عبدا أعطاه الحياة؟، أعطاه نفسا ينفثه على هذه الأرض، وحلما يسعى خلفه، وبصمة يتركها وراءه إذ مات، وأمل لمن هم مثلنا في حياة لا تترك أحدا من شرها وشهواتها. أي حلم ذاك الذي أتركه خلفي وقد رأيت مادلين تركض خلف حلمها بكل القوة القليلة التي أتاها الله إياها؟ وأي أثر لا أتركه خلفي وقد خلقني الله له؟ وأي نعمة لا أحمد الله عليها في كل وقت وحين؟

اسع لنفسك أولا، ولحلمك، واحمد ربك كثيرا، وقف كثيرا، وواجه أكثر فما ولدنا لننتظر الموت! واستغل كل نفس رزقك الله إيّاه حتى آخر لحظة في عمرك فما أخذ دوما إلا ليعطي أبدا

وأن يا ابن آدم ما تلك إلا رسالة لك أن الله "ما أخذ إلا ليعطي"، ما أخذ من جسد إلا ليعطي من أمل، وما أخذ من راحة بال إلا ليعطي فرجا تناله نفسك جزاء صبرها وسعيها! فقط لا تترك الدنيا لتتملك منك، وابحث عن الأمل ولا تنتظره، فالأمل لن يأتي لأحد لا يبحث عنه! واقرأ كثيرا، القصص الملهمة كثيرة عدد شعر رأسك وتنتظر منك فقط أن تستلهم منها.

 

إن لم تكن عرفت بعد ليزي فيلاسكويز صاحبة أنحف جسد بوزن 29 كغ قد تجعلك ذاهلا أمام حالتها! أن كيف لها أن تقف وتمشي وتحارب! لكنها الآن كاتبة ومتحدثة ملهمة بعد أن نالت من مجتمعها الكثير من التنمر والبغض والنظرة القبيحة لشكلها والحكم عليها لمجرد شكلها وجسدها. اسع لنفسك أولا، ولحلمك، واحمد ربك كثيرا، وقف كثيرا، وواجه أكثر فما ولدنا لننتظر الموت! واستغل كل نفس رزقك الله إيّاه حتى آخر لحظة في عمرك فما أخذ دوما إلا ليعطي أبدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.