شعار قسم مدونات

يحسدونهم على الخروج النهائي

blogs - مطار
الإنسان العربي الذي كتبت له الأقدار أن يكون مغتربا بقصد العمل وطلب الرزق، متشابها مع أقرانه بشكل عام في الوجهات التي يقصدها، في مستوى المعيشة التي يكسبها، وفي أحلامه التي يرسمها أيضا، وبدون أن ندقق النظر، فإن أغلب الوجهات لهذا الإنسان العربي تتجه صوب الخليج، وصوب المملكة السعودية بشكل أخص.

كانت الحياة يحيطها الاطمئنان الشديد قديما في وجهات الناس الذي تغربوا عن بلادهم قبل عشرين أو ثلاثين سنة، فلم تكن الحياة في هذا العالم قد وصلت إلى هذا الحد من التعقيد والالتزامات، ليست على المواطن العربي فقط، ولكن على أهل الأرض قاطبة، فبالتالي كانت البركة حاصلة بإذن الله على كل درهم يكتسبه المغترب في مكوثه هناك، في الغربة، كان بإمكانه أن يوفر لقمة عيش سهلة، ويوفر تكاليف سيارة، وزواج، وبيت، وتعليم أولاد، وبناء، واستثمار.

أما الآن، وليس الآن في هذه اليوم، ولم تعد الآن هذه السنة فقط، بل لأكثر من خمس أو عشر سنين، أصبحت الحياة في الغربة بحثا عن لقمة كريمة كافية فقط، ولم تعد لا لاستثمار ولا لبناء، ولم يعد للغربة ثمن إلا أن تكون اللقمة سهلة، وتنازلا عن جميع ما كان من الممكن تحصيله آنفا قبل سنين طويلة، أصبحت الغربة ضريبة للبلاد المنهكة من سارقيها وزوانيها، والتي ترمي بأبنائها الشرفاء الطاهرين الباحثين عن العيش الكريم الحلال بأي ثمن، لذلك، أصبحت الغربة بلا ثمن!

خيم الصمت على الجميع، طأطأ الجميع رأسه، تمنينا له الخير لأنه كان من أفضل أصدقائنا، ولكن لم يكن يخفى على أحدنا أن الجميع كانوا يحسدونه على ما قد وصل إليه وما ناله، بقدر ما يحسدنا الناس على غربتنا أصلا!

قبل عدة أيام، فاجأنا أحد زملاء الدراسة الذي يقيم معنا في المدينة الخليجية التي نسكنها، بإبلاغنا أنه ينوي القيام بعمل حفل بسيط في أحد المطاعم وذلك لجميع أصدقائه المقربين، ربما الإرهاق والتعب واستنزاف طاقة الإنسان من عظامه أنستنا أن نسأله عن المناسبة، فلبينا الدعوة، وكانت المفاجأة بأن السبب الكامن وراء هذه الحفلة هي "قطيعة الرزق"!

ولم نكن ندري ما الذي يريده صديقنا هذا من تسميته لسبب هذا الحفل بهذا الاسم الذي يدعو للاشمئزاز، بل وكان يقولها وابتسامة عريضة على شفتيه، والنور يعلو محياه، محياه الذي كان قد تقطب لسنين طويلة مما رأى –كما رأينا- من الاستعباد والذل والإهانة والتعب والتنازل لأجل لقمة عيش لم تعد كافية إلا بالكاد للعيش.

ثم بدأ بالشرح لنا باسترسال: لقد أخذت اليوم تأشيرة الخروج النهائي، وأنا في خلال هذا الأسبوع سأكون بإذن الله قد رتبت أموري، أعود إلى بلدي، إلى بيتي الذي لا يقدر بثمن عظيم، إلا أنه يسترني ويستر عيالي، وذلك حصيلة سنين طويلة جدا من "المواصفات والمقاييس التي ذكرتها لكم ثمنا للغربة قبل ذلك"!

خيم الصمت على الجميع، طأطأ الجميع رأسه، تمنينا له الخير لأنه كان من أفضل أصدقائنا، ولكن لم يكن يخفى على أحدنا أن الجميع كانوا يحسدونه على ما قد وصل إليه وما ناله، بقدر ما يحسدنا الناس على غربتنا أصلا!

لم تعد الغربة في خضم ما يتجه إليه العالم اليوم من التكسب والتربح بأي ثمن مكسبا أبدا، فلن يموت عامل من الجوع، ولن تفنى الحياة بلا غربة، ولن يكون لنا حياة أخرى حتى نكسبها في جوار أهلنا.

يحسدنا الناس على أننا مغتربون، ونحسده على أنه عائد بين أذرع أهله ووطنه، يحسدنا الناس على لقمة واسعة "مهينة"، ونحسده على أنه سيعيش بعد الآن ربما بما لا يتجاوز ثمن اللقمة الصعبة، ولكننا كنا نعلم يقينا أنها كريمة، كريمة جدا..

يحسدنا الناس على البلاد الجميلة الحضارية التي نقطنها، ونحسده نحن على أنه عائد إلى وطنه الذي تربى فيه، الذي لم ينس طيلة هذا الزمن –ولم ننس نحن- رائعة ترابه وخبزه وذكرياتنا، يحسدنا الناس على أن عندنا المولات والبحار والشواطئ والحضارة، ونحسدهم على أن عندهم أحبابهم وأهاليهم.

لم تعد الغربة في خضم ما يتجه إليه العالم اليوم من التكسب والتربح بأي ثمن مكسبا أبدا، فلن يموت عامل من الجوع، ولن تفنى الحياة بلا غربة، ولن يكون لنا حياة أخرى حتى نكسبها في جوار أهلنا وأحبابنا إن ضيعنا العمر في غربة بلا ثمن، وثمن مادي –وبلا خجل- ففي الحياة متعة كثير بجوار من نحب وما نشعر بهذا، وفي التعب لذة عظيمة وما نوقن بطعمه، وفي السماء رزقكم… وما توعدون …

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.