شعار قسم مدونات

الصحافة الثورية.. سورية نموذجاً

blogs الصحف
يقولون إنّ المعاناة والألم يفجّران الكامن في نفس الإنسان من الطاقات والإمكانات، فكيف إذا كانت هذه المعاناة مقدمة للخلاص من العبودية والقهر، وباباً للحرية التي يعشقها أصحاب الطباع السليمة من البشر؟ معاناة كهذه تجعل أصحابها يَصِلون الليل بالنهار، ويستسهلون الصعب، ويصبرون على التعب والوصب، ويستهينون بالخطر، ويسخّرون كلّ ما تقع عليه أيديهم من إمكانات ضئيلة للتقدّم باتجاه هذه الغاية النبيلة.

ينطبق هذا الكلام انطباقاً تاماً على حال الصحافة الحرّة التي نشأت بعد قيام الثورة السورية، ففي إطار الاستفادة من كلّ الامكانات المتوفرة و المتاحة وتسخيرها لخدمة الثورة، قام الناشطون على الأرض في أغلب المناطق المشتعلة بمبادرات فردية لإصدار بعض الصحف الالكترونية والتقليدية (الورقية) لدعم الحراك الثوري والمساهمة في تأجيجه، بحيث تكون لسان حال الثورة، فتنقل ما يجري على الأرض، وتقدم معلومات ميدانية عن الحراك الشعبي، وتوثّق الأحداث بالصور والتقارير من مواقعها، وتنقل معاناة الناس وآلامهم وطموحاتهم، كما تقدّم رؤى، وتقترح حلولاً لمعالجة بعض المشكلات الحياتية اليومية الناتجة عن فعاليات الثورة وطريقة مواجهة النظام لها وغير ذلك.

تفجّرت هذه المبادرات في ظلّ عزوف شبه كامل من الناس عن قراءة الصحف، لعدم انتشار ثقافة القراءة بشكل عام، ولمنافسة وسائل الاتصالات الأخرى للصحافة، كما لا ننسى العامل الأهم وهو انعدام الثقة فيما تنشره الصحف عند أكثر النّاس، حيث لم يكن يصدر في سورية وعلى مدى نصف قرن سوى ثلاث صحف رسمية رئيسية هي (الثورة والبعث وتشرين) وفي كلّ محافظة صحيفة محلية تلوك وتجتّر ما ينشر في الصحف الكبرى، وعندما قُدِّم بشار للسوريين كخليفة حداثي لأبيه، كان من وسائل ذلك السماح بإصدار بعض الصحف الخاصة التي لم يتحمّل النظام وجودها مع مهادنتها له، فتمّ إغلاقها بعد فترة بسيطة من ظهورها، أو توقفت عن الصدور بسبب الأعباء المالية الكبيرة التي لم تكن قادرة عليها، إلا بعض الصحف التي يصدرها المقرّبون من النظام، وهي تدور في فلك الإعلام الرسمي.

بعد أيام الثورة الاولى بدأت المجلات والصحف الثورية بالصدور في المدن والمناطق والبلدات، ولاقى بعضها قبولاً، ولكن كثرة المعوقات جعل بعضها يتوقف عن الصدور، بينما استمرت أخرى استطاعت التغلب على هذه المعوقات.

هذه الصورة النمطية للصحافة انطبعت في أذهان الناس حيث لم يروا فيها إلا مرآة للنظام القمعي الفردي المستبد، فلا همّ لها إلا تلميع القائد الفذ والزعيم الأوحد، وتعداد مكرماته وعطاياه وتضحياته، ووصفه بما يصل إلى حد التقديس، ومدح سياساته الداخلية والخارجية وإظهارها في غاية الكمال والذكاء رغم فظائعها.

كلّ هذه الأمور جعلت هذه الصحافة معزولة عن اهتمام الناس، فهي تعيش في واد والناس يعيشون في واد آخر، فهي بعيدة عن مشكلاتهم ومعاناتهم وطموحاتهم، لأنّها مشغولة باستقبالات الرئيس وتوديعه وتدشينه للمشاريع الاقتصادية التي لا يرى الناس من آثارها شيئاً.

هذا الواقع المرير جعل هذه الصحافة الثورية الناشئة أمام تحديات كبرى للوصول إلى قبول النّاس وثقتهم، فكان لا بد من جهود مضاعفة وعمل دؤوب لإبراز الفوارق بين صحافة الثورة وصحافة النظام الاستبداد الأسدي، من خلال توثيق الأخبار بدقة كبيرة قدر الإمكان وحسب الظروف، ونقل نبض الشارع، والاهتمام بمعاناة الناس وهمومهم، والتركيز على حريّة الرأي وطرح الآراء المختلفة حول المواضيع المطروحة.

واجهت هذه الصحف مصاعب كثيرة في ظروف صدورها واستمرارها، منها ما هو متعلّق بالإمكانات المتوفرة المتاحة، حيث إنّ تأمين التكاليف المادية كان وما زال أحد العقبات الرئيسة أمام صدور هذه الصحف واستمرارها، فعدم وجود وسائل تقنية من أجهزة حديثة وطابعات، بالإضافة إلى التكلفة المادية لكلّ عدد يشكّل همّاً مستمراً لفريق الصحيفة وهذه التكاليف يقدّمها عادة بعض المتبرعين من الأهالي والمغتربين.

ومن هذه المصاعب ما يتعلّق بالجانب المهني والتقني، فأغلب العاملين من الناشطين هواة لم يسبق لهم أي عمل العمل بالصحافة والإعلام (حيث كانت صحف النظام حكراً على الموالين والممجدين فيّ ظلّ قيود ومراقبة شديدة) بالإضافة إلى أنّ أكثرهم لا يحمل أيّة مؤهلات في هذا المجال، وإنّما ألجأتهم ظروف الثورة إلى اختيار هذا النوع من العمل، بالإضافة إلى أنّ بعضهم يفتقد الخبرة لاستخدام الوسائل التقنية المتطورة إن وجدت.

ومن هذه المصاعب ما يتعلّق بواقع الحياة في مدن وقرى سورية في ظلّ ثورة تعمّ أغلب جغرافية سورية، من حيث انقطاع التيار الكهربائي المستمر، وغياب شبكة الإنترنت عن معظم الأراضي السورية، أو سوء الاتصال وضعفه في المناطق التي توجد فيها شبكة كالعاصمة وبعض مراكز المدن، ممّا يؤخر وصول المواد التي تعدّ للنشر، ويوجد صعوبة في التواصل بين أسرة الصحيفة نفسها، أو بينها وبين الناشطين الآخرين في الميدان، يضاف إلى ذلك ندرة الحبر والورق اللازم للطباعة.

وأهم وأخطر هذه المصاعب على الإطلاق هو ما يتعلّق بالجانب الأمني، حيث يعتبر العمل في هذا المجال حكماً بالإعدام على صاحبه، فهو إمّا أن يعتقل فلا يعرف أين هو، أو يستهدف مباشرة بقصف الطائرات أو الصواريخ أو بالاغتيال أو يستشهد تحت التعذيب ، ولقد فقدت هذه الصحف عدداً كبيراً من كوادرها،

اتخذ العاملون في هذا المجال من الناشطين بعض إجراءات الحيطة والحذر، فكتبوا بأسماء مستعارة تحميهم من مراقبة الأجهزة الأمنية أو التابعين لها (من شبيحة الجيش السوري الالكتروني) التي تستعين بالخبرات الإيرانية في هذا المجال، وأخطر ما في الأمر توزيع الصحف الذي يتمّ غالباً بسرية تامة وبعيداً عن العيون، وخصوصاً في المناطق التي ما تزال تخضع لسيطرة النظام.

يحلم الناشطون أن تكون هذه الجهود هي النواة الأولى لصحافة حرة في سورية الجديدة، صحافة حرة بدون تبعية لأية جهة، ودون إملاءات من أحد، صحافة تكون فعلاً سلطة رابعة تضاف إلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية

في أيام الثورة الأولى كانت بعض التنسيقيات تقوم بطباعة بعض الأوراق على هيئة منشورات بإمكانات محدودة جداً، توزعها على الناس في المناطق والبلدات للتحريض على التظاهر، وتوجيه المتظاهرين إلى أماكن التجمع، وكيفية الوصول إليها وغير ذلك.

ثمّ بدأت المجلات والصحف الثورية بالصدور تباعاً في المدن والمناطق والبلدات، ولاقى بعضها قبولاً جيداً عند الناس، وانتشاراً كبيراً بين الناشطين، ولكن كثرة المعوقات والصعوبات جعل بعض هذه الصحف تتوقف عن الصدور، بينما استمرت صحف أخرى استطاعت التغلب على هذه المعوقات.
من هذه الصحف التي توقف أكثرها:

(البديل) 11 /9/ 2011 و(سوريتنا) 26/9/ 2011 و (سورية بدا حرية) 30 /10/ 2011 و (إميسا 15/9/2012 ) و (عنب بلدي) 1/1/ 2012 و (طلعنا عالحرية)11 /3/ 2012و (عهد الشام) 18 /3/ 2012 و (أوكسجين) و( شرارة آذار) و(حريات) و(أخبار المندس) و(السنونو) و (أحرار قاسيون) و( أحفاد خالد )و (صوت الحق) و (حنطة) و(سنديان) وغيرها.

أخيراً.. يحلم الناشطون أن تكون هذه الجهود هي النواة الأولى لصحافة حرة في سورية الجديدة، صحافة حرة بدون تبعية لأية جهة، ودون إملاءات من أحد، صحافة تكون فعلاً سلطة رابعة تضاف إلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، تراقب مدى قيام هذه السلطات بواجبها، ومدى احترام هذه السلطات للقانون وحقوق الإنسان، في ظل نظام سياسي يقر بمبدأ الفصل بين السلطات، وبسيادة القانون والمؤسسات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.