شعار قسم مدونات

وقد صار الحلم جرماً

blogs رجل ينظر من نافذة
كم يؤلمني أن أجلس شارد الذهن، عاجزاً، تائهاً بين المحطات المختلفة باحثاً عن بارقة أمل، عن بقعة ضوء ولو ضئيلة تخترق هذا السواد الذي يكسو فضاءنا العربي، ويحاصر آمالانا من كل الجهات. حالي حال أي مواطن في شرقنا المكلوم، مُعتقل الروح بين دفتي المحيط والخليج، ليس بوسعه سوى أن يراقب واقعه المهزوم بحسرة، ويدوّن بمرارة كل هذا الأسى. لا أدري إن كنت سأحتفظ بمذكراتي البائسة، فأورثها لأبنائي وأحفادي؛ أم أنّي سأحرقها كما فعل جدي الذي لم يقو على الصمود أمام حشرجات الذاكرة المعذبة.

نعم، ها نحن نلطخ التاريخ بهزيمة أخرى أسوأ مما سبقها من هزائم. هل يا ترى نحن عبء على المسير إلى الأمام؛ أم أننا ندفع ثمن إرث تاريخي من الأحقاد، سيرثه لا شك عنا -دون ذنب- أحفادنا! لا أدري إن كانت كلماتي ستُقرأ، فليس سهلاً على العربي الذي يحيا تاريخه شعراً، وبطولات كاذبة، أن يصدق أن ذاك كان وهما. ليس سهلاً على العربي الذي ما زال يحفل بأمجاد من مرّوا سريعاً من هنا، أن يصدق أنه اليوم عبء ثقيل على هذه الأمكنة المبعثرة. ليس سهلاً على العربي، الذي يرى أن بلاده قد أصبحت وليمة دسمة على موائد الأغراب- وليس له منها سوى ما تبقى من عِظام- بأن يصدق أن "إسبانيا" كانت ذات يوم "أندلس".

كيف لنا أن نغدو يوماً ما أردنا، أن نكسر أصنام العصور الغابرة، أن نشدو كما السنونوات بلا قيد يحاصر ريشنا، أن نغرد كالبلابل بعيداً عن صخب السلاسل! آه، كيف لنا أن نرتّب صباحاتنا دون إذن من الجنرال.

ليس سهلاً على العربي الذي ما زال يتغنى بديوان اللغة المقدسة، لسان العرب، المعلقات على جدار الكعبة، وألفية ابن مالك، أن يصدق بأن زمان النحو والإعراب قد ولىّ، وأن قيسا -اليوم- يحتاج جواز سفر وتأشيرة مرور بين القبائل، كي يزور ليلى.. ليس سهلاً على العربي الذي زار جده، القدس، قادماً من بغداد عبر دمشق، بعد رحلة الحج إلى الحجاز مسافراً على الجمال، أن يصدق بأن حاجزاً لعسكر من الغرباء بين شرق حلب وغربها سيرديه قتيلاً، إن حاول العبور دون إذن من بندقية مستوردة.

وفي غمرة كل هذه التساؤلات والتأملات العقيمة، تضيق بالعربي خيارات الحياة، فبينما ينشد المواطن في بلادي التغيير، والارتقاء صوب الدول المتقدمة، يسعى الحاكم جاهداً لحصاره بعبودية الماضي، فيشدّه نحو كتب التراث والتاريخ الملوث بالخطيئة؛ وكأنه لا مفر لنا من حرب داحس والغبراء، وإرث البسوس الملطخ بعار الدم بين أبناء العمومة.

آه، كيف لنا أن نغدو يوماً ما أردنا، أن نكسر أصنام العصور الغابرة، أن نشدو كما السنونوات بلا قيد يحاصر ريشنا، أن نغرد كالبلابل بعيداً عن صخب السلاسل! آه، كيف لنا أن نرتّب صباحاتنا دون إذن من الجنرال، أن نترجم آلامنا شعراً دون أن نسبّح بحمد العسكر، أن نرسم شمساً للمستقبل دون أن يخمدها السلطان. آه، كيف لنا بعد اليوم أن نحلم، وقد صار الحلم جرما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.