شعار قسم مدونات

لا تتنحى…

جمال عبد الناصر

هكذا انطلقت فورة المصريين العاطفية على ألسنتهم بعد سماعهم خطاب القائد المهزوم جمال عبد الناصر معلنين رفضهم التام لهذا الإجراء وموضع النقاط ما يعف عنه القلم ولا يناسب المقام ولكنه يؤكد عفوية وشعبوية التحرك. يحكي هيكل عن الرجل أنه كان يتوقع أن يطالب المصريين بشنقه في ميدان عام فإذا به يفاجأ بردة الفعل التي فاجأت كل المراقبين في عصره والمؤرخين الذين مروا على تلك الحادثة في نصف القرن الماضي.

 

يعتقد البعض أن الطوفان البشري الذي غمر القاهرة حينها كانت له نواة تنظيمية من صنع علي صبري أمين عام الاتحاد الاشتراكي حينها وقد يكون هذا صحيحا لأن الشعب المصري لا يتحرك في الشارع إلا مدعوا لكن الصحيح أيضا أن ما آل إليه الوضع أكبر من أي تنظيم. كانت استجابة شعبية عارمة تنم عن رغبة حقيقية في عدم تنحي عبد الناصر. وهذا ما يجعل الباحثين الجادين يقفون مشدوهين لا مشككين. مشدوهين من شعب يكرم قائده الذي هزم هزيمة ثقيلة غير عادية وفقد قواته الجوية في ضربة واحدة.

 

تحدثت الصحافة الغربية حينها ساخرة أو مندهشة عن الشعوب التي تستقبل المهزومين بأكاليل الغار. يصف جاك دومال الصحفي الفرنسي الذي كان شاهدا ما حدث "كان الجميع يهتز ويزحف، حتى إذا طلع الفجر، انبثق مشهد عجيب: عاصمة كبيرة، تفوق مساحتها مساحة باريس، غشيتها أمواج شعبية هائلة، لا تعد بمئات الألوف مثلما حدث عام ١٩٣٦، بل بالملايين. تلك الملايين التي كانت قد صففت مرارا لجمال، والتي كان الزعيم قد انتظر عبثا، في ١٩٥٢، "سيرها، صفوفا متراصة، في زجفها المقدس"، ها هي ذي أخيرا، صفوفا متراصة، ها هي بالملايين، ولكن ليس في ساعة النصر، بل في ساعة الضيق، ساعة الأصدقاء الحقيقيين، ساعة المحنة.

 

شخصنة السياسة والحكم والحرب.. تلك سمة الشعوب التي عانت من الاستبداد السياسي فترة طويلة وأدمنت صنع الزعامات والارتباط بها حتى وإن لم يكن من ينصبوه زعيما راغب في ذلك

ولا يمكن لمن لم يشاهد الزحف الكبير بنفسه، أن يتصور شوارع مصر الجديدة الواسعة مثل شارع الشانزليزيه وقد امتلأت بحشود لا حصر لها، حتى أصبح من المستحيل مرور بائعي المرطبات والسندوتشات والحلوى" من الصعوبة بمكان تفسير تلك النفسية الشعبية التي تصادم قوانين الطبيعة، الرجل يستحق الإعدام على تقصيره وتسببه في مقتل 10000 جندي مصري دون جدوى وهم لا يكتفون بتركه دون عقاب وإنما يخرجون بالملايين لإقناعه بالبقاء رئيسا! لماذا؟ لدي وجهة نظر قد تفسر هذا العجب، فرد الفعل هذا ناجم عن سمة للوعي الجمعي السياسي المصري والعربي عامة.

 

في خضم الأزمة الخليجية المتمثلة في حصار دول الجوار لقطر والتي باتت تفاصيلها معروفة بكم التغطيات والتحليلات الرهيب تشهد قطر ردة فعل شعبية مثيرة للاهتمام. ردة الفعل هذه تتمثل في انتشار لافتات تحوي صورة الأمير تميم بشكل واسع على السيارات وواجهات المحلات التجارية تحمل عبارة تميم المجد. وهي مثيرة للاهتمام والدهشة لأن الإدارة القطرية مازالت تتعامل مع الأزمة بمؤسسية عالية فوزير الخارجية يتحدث عن المعالجة الدبلوماسية والجهاز الاقتصادي يظهر ممثلوه للحديث عن مخزون السلع الغذائية وغيرها والوضع الاقتصادي وهكذا بينما الأمير لم يظهر حتى الآن في الواجهة.

 

وهذا يحسب له بكل تأكيد فالرجل لم يتقمص شخصية أي قائد شعبوي ولم يظهر ليلقي خطابا يطلب فيه تفويضا ودعما لمحاربة الشرق والغرب الذي يتآمر عليه ولم يحاول المقامرة بمصير الشعب القطري للحصول على مكاسب شعبية على مستوى العالم العربي ككل بل ترك الدولة تتعامل مع الأزمة باحترافية وهدوء وهدفها الوصول إلى حل يزيل الحصار الذي لا يصب استمراره في مصلحة الشعب القطري دون تنازل.

 

ولو أراد لحصل على تلك الشعبية ففي صفحته دعم حركات المقاومة وثورات الشعوب على المستوى المالي والإعلامي. ثم إن المشكلة ليست في شخص الأمير لم يصرح المحاصرون بذلك وإنما سياسة قطر الخارجية ودعمها لحركات المقاومة وموقف الدولة القطرية يدل على ذلك وهذا ما تصرح به.. فلم ربط الوعي الشعبي القطري ما يحدث بشخص الأمير ورأى أن دوره هو إظهار تمسكه بأمير البلاد؟ الواقع أن الشخصية العربية تتشابه في كل قطر بشكل لا تملك إلا التعجب منه.

 

كانت الآلة الإعلامية لعبد الناصر تسقي المصريين صباح مساء شراب المؤامرة لإسقاط نظام عبد الناصر التي لا عمل لكل القوى الدولية إلا بها ولم ينفك هيكل فيكتبه يحدثنا عن خطط الصهيونية والإمبريالية لقتل عبد الناصر التي تحمل كلها أسماء طيور ولا أدري لذلك سببا الحقيقة. فالعملية عصفور الإسرائيلية كان هدفها اغتياله وفشلت ثم خطة الديك الرومي الأمريكية وهدفها التخلص من ناصر ونظامه.. ضاعت الحقيقة بين العصفور والديك الرومي. المهم أن الفيض الإعلامي المؤامراتي قد جعل عقيدة المصريين تتمثل في أن انتصارهم على العالم هو في بقاء نظام عبد الناصر وهزيمتهم في زواله.

 

لا تشغل المبادئ والقيم والسياسات حيزا كبيرا في العقل العربي فهو ممتلئ بصور الشخصيات. متى نرى لافتات ونسمع هتافات بالحرية والكرامة والاستقلال الوطني؟

لذا عندما بدأت تردهم أنباء الهزيمة وتدمير قواتهم الجوية.. صدموا.. وجموا.. حزنوا.. إلا أنهم لم يغضبوا ويتحركوا في الشارع إلى عندما رأوا الهزيمة توشك أن تقع بتنحي عبد الناصر فملأوا الدنيا هتافا ثم عادوا لبيوتهم هانئين بانتصارهم عندما تراجع عبد الناصر عن التنحي وأعلن استجابته لرغبة الشعب في بقائه رئيسا. هم في الحقيقة لا يعرفون انتصارا غيره. ومن غير الواضح إن كان ما أصاب المصريين قد نقله الماء أم الهواء لأشقائهم العرب.

 

شخصنة السياسة والحكم والحرب.. تلك سمة الشعوب التي عانت من الاستبداد السياسي فترة طويلة وأدمنت صنع الزعامات والارتباط بها حتى وإن لم يكن من ينصبوه زعيما راغب في ذلك. تلك نتيجة حكم الفرد الذي لم يعرف العرب غيره إلا قليلا ورغم أن هذه القضايا تتطلب خطورتها أن يكون تناولها مؤسسي بالضرورة إلا أن العرب يتركونها للحاكم الفرد سلبا أو إيجابا. لا تشغل المبادئ والقيم والسياسات حيزا كبيرا في العقل العربي فهو ممتلئ بصور الشخصيات. متى نرى لافتات ونسمع هتافات بالحرية والكرامة والاستقلال الوطني؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.